من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة الرّحل والظّعن وأدواتها الدلالة على الهَوَادج التي تحملها الإبل: قال عليه السلام: ((يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَد))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة الرّحل والظّعن وأدواتها الدلالة على الهَوَادج التي تحملها الإبل: قال عليه السلام: ((يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَد))

23 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 29-12-2025

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:
الوَضِيْن
 ((الوَضِيْنُ بِطَانُ البَعِيْرِ، إذا كان مَنْسوجاً بعضه في بَعْض))([1]). ويصف اللغويون هذا البطان بأنه عريض ولا يكون الاّ من الجلد أو الشعر([2]). وإنما سمت العرب هذا البطان بـ (الوَضِيْن)؛ لأنه منسوج([3]). والوَضْن في اللغة النسيج ووضع الشيءِ بعضه على بعضٍ في النسيج. وهو مخصوص بنسج الدروع المحكمة، ومن ثم استعير لكل نسيجٍ محكمٍ مثل نسيج السرير وأشباهه بالجواهر([4]). ومن ذلك قوله تعالى شأنه {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}([5]). و(المَوْضُوْنَة) في الآية المباركة  المنسوجة القوية اللُّحمة والسّدى([6])، وهذهِ الدلالة مأخوذة من (الوَضِيْن)، وهو الحبل العريض الذي يصنع منه الحزام؛ لقوة لحمته، فمنه تصنع و تنسج سُرُر الملوك المرصعة بالجواهر([7]). وقد استعمل الذكر الحكيم هذهِ المفردات للدلالة على الاستقرار حين الاتكاء([8]). لمن يكون في الجنة. وقد وردت لفظة (الوَضِيْن) مرتين في نهج البلاغة([9])؛ فقد استعمل(عليه السلام) هذه المفردة في الاشارة إلى اضطراب الفكر والعقل والتسرّع في الكلام. وذلك في مقام الإجابة على سؤال بعض أصحابه الذي سأله: ((كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟))([10]). فقال له الإمام (عليه السلام): ((يَا أَخَا بَنِي أَسَد، إنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ([11]) فِي غَيْرِ سَدَد([12])...))([13]). وإجابة الإمام تحتمل أمرين؛ الأول إرشاد الرجل الأسدي إلى غلط تفكيره، وانحراف رؤيته للأحداث، بحيث أنها أُبهمت عليه فاحتار فيها. والثاني أن الإمام جعل من عقل هذا الرجل وأفكاره وفهمه لهذهِ القضية أَشبه بـ (البِطَان) الذي يربط به الرحل الموضوع على ظهر البعير. وهذا الحزم المنسَوج من السيور يتميز يكونه الأُس الذي يحكم به الهودج أو الرحل. فإذا اضطرب أو ضعف، اضطراب المحمل وازداد قلقه، حتى يميل إلى السقوط. وكثيراً ما يكون ذلك من ضعف ضبط هذا الحزام. على الرغم من دقة نسجه وإحكام لحمته. ومن نتائج هذا الخلل في ربطه اضطراب سير البعير نفسه، وتمايله بسبب من قلق محمله من القتبٍ أو غيره.
فجعل الإمام (عليه السلام) فكر هذا الرجل واضطرابه في السؤال وفهمه لهذهِ المسألة، كالوَضِينِ القَلَقِ المضطرب، الذي لا يثبت له قرار. فقد ارسل هذا الرّجل كلامه دون تبصرّ، أو ادراك للسؤال والمقام الذي سأله فيه. فجاء قول الإمام متضمناً الدلالة على الأنكار والتعريض بهذا الشخص لما فيه من سرعة الحركة، والخّفة، وقلة الثبات، فهو في ذلك كالحزام الذي يشد به الرحل إذا كان رخواً([14]). ورأى أغلب الشراح أن معنى كلمة الإمام السالفة الذكر هو الدلالة على القلق والاضطراب، والتكلم في غير قصدٍ وصواب([15]). وذلك أن الرجل لم يكن ثابتاً في عقله وأموره، حتى أنه يضع سؤاله في غير موضعه استعجالاً منه وتسرعاً.
أقول: ويحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام أن نسج فكر هذا الرجل الذي يخاطبه الإمام على غير إحكام وتثبت، وكأنه منسوج بالتسرع والاضطراب والقلق، بدلاً من الحكمة والروية والتعقل. ويعين على ذلك على هذا المعنى الأصل المعجمي لمفردة (وَضِيْن). (فالوضن) في اللغة النسج([16])، ويخصصه اللغويون بنسج السرير وأَشباهه بالجوهر والثياب([17]). ويقال للدرع موضونه، إذا كان نسجها مقارباً محكماً([18]). ومن هنا قيل لبطان الرحل (وَضين)؛ لأنه منسوج بعضه على البعض من السيور([19]). وقد وردت لفظة (وَضِيْن) موصوفه بالقلق والاضطراب أشار إلى الدنيا المضطربة المتقلقلة في حكم بني أمية، وذلك في (خ/105).  )([20]).

الهوامش:
([1]) العين (وضن): 7/61.
([2]) ينظر: العين (وضن):7/61، ولسان العرب (وضن): 13/450.
([3]) ينظر: لسان العرب (وضن): 13/450.
([4]) ينظر: مفردات الفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني: 1/526، ولسان العرب (وضن): 13/450.
([5]) الواقعة / 15، 16.
([6]) ينظر: التفسير الكبير: 29/130.
([7]) نفسه.
([8]) نفسه.
([9]) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 487.
([10]) نهج البلاغة: خ/62: 288، ومصادر نهج البلاغة وأسانيده: 2/5.
([11]) الرَّسْل القَطِيْعُ من الإبل والغَنَمِ والإرْسَال التوجيه. ينظر: لسان العرب (رسل): 11/281، 283.
([12]) السّدد، والسَّد إغلاق الخلل ورَدْم الثَّلْم. ينظر: لسان العرب (سدد): 3/7.
([13]) نهج البلاغة: خ/162: 228، وقد نقلت كتب الغريب والمعاجم مقولة الإمام المتقدمة. ينظر: النهاية في غريب الحديث: 2/303، ولسان العرب (وضن):
([14]) ينظر: النهاية في غريب الحديث: 2/303، ولسان العرب (وضن):13/450.
([15]) ينظر: شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 9/186، وشرح نهج البلاغة (البحراني): 3/658، ومع نهج البلاغة: 362.
([16]) ينظر: لسان العرب (وضن): 13/450.
([17]) نفسه.
([18]) نفسه.
([19]) نفسه.
([20])لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 155-158.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2115 Seconds