مِسكُه غديرٌ

أدب الغدير

مِسكُه غديرٌ

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-07-2021

خُطَى الخُزَاعي

ثقَّف صاحب الرسالة الخاتمة (صلى الله عليه وآله وسلم) لمتلازمة الكتاب والعترة، موجهًا بلا بُدِّية تحصيل التمسك بهما معًا، بتقديم أهم تداعيات هذا التحصيل وهو التحرز من الضلال، إذ قال (صلى الله عليه وآله) راويًا عنه الجميع من طرق مختلفة منها: ((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي الثَّقَلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا، حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ))([1]).

بعد مثل هذه البيانات كان سيُتَوقع من متلقيها التسابق باتجاه هذا التحصيل، والتنافس على الوصول إلى أرضى رتبه، تلبية لما يقتضيه التعبد أولًا ودفعًا للضرر(الضلال) -المتيقن تحققه بخلاف التمسك بهما بإخبارٍ ممَّن اعتقدوا بصدقه سلفًا- على سجية العقلاء وسيرتهم ثانيًا.

ولأنَّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) يعرف قدر ما يترتب عليه التمسك بهذه المتلازمة من أثر محقق لغرض الرسالة، كانت مبالغته (صلى الله عليه وآله) -المنظورة للوهلة الأولى- في التثقيف والدفع باتجاه هذا التمسك متناسبة وأهمية ما يُطلب من نتيجة.

فأمَّا القرآن فقد تكفل مُنزلُه بحفظ نصوص آياته أبدًا، ولذا قد ساير حرفه الأجيال والعصور كما أنزل على قلب الخاتم (صلى الله عليه وآله)، أمَّا مقاصد تلك النصوص ومراداتها قد قيَّد حفظها بشق الهداية الآخر (العترة المطهرة) إذ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}([2]) (آل عمران:7)، ليُفهمَ عند هذه الفاصلة من البيان أنَّ الكم التثقيفي النبوي باتجاه العترة المطهرة كان أوسع من كم التثقيف النبوي باتجاه القرآن الكريم وأغزر، والعلة في ذلك قد اتضحت أيضًا في أنَّ التمسك بالعترة المطهرة سيؤدي بداهة ومباشرة بلا أدنى تكلف إلى التمسك بالقرآن حقيقة (قصدًا ومرادًا)، إذ هو آيات بينات في صدورهم (صلوات الله عليهم)، بخلاف التوقف عند رسم القرآن الكريم وحرفه الذي قد لا يؤدي بالضرورة إليهم (صلوات الله عليهم)؛ لا سيما بعد كم التحريف الذي طال مقاصد نصوصه، ولي أعناق آياته تجاه المآرب المضادة؛ فيستبان أنَّ أيَّ دفع باتجاههم (صلوات الله عليهم) هو تضمين للدفع باتجاه القرآن الكريم، وهذا معنى في الملازمة بيّن، والهداية بوصفها محصلة لن ترى النور إلّا بكليهما معًا.

وبالعودة مرة أخرى إلى واعية حديث الثقلين مُدافةً بحجية الغدير الأغر إذ نقلوا: ((عنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]ٍ وَسَلَّمَ) عَنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ أَمَرَ بَدَوْحَاتٍ فَقُمِمْنَ، ثُمَّ قَالَ: كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخِرِ: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا؟ فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ وَلِيُّهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، فَقُلْتُ لِزَيْدٍ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]ٍ وَسَلَّمَ)؟ قَالَ: مَا كَانَ فِي الدَّوْحَاتِ رَجُلٌ إِلَّا رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ))([3]).

فحدَّد (صلى الله عليه وآله) في الغدير الميمون -بعد أن ذكر الثقلين- مصداق العترة في ذلك الوقت وهو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) محكمًا عُرى الهداية لمن أراد أن يستمسك وينجو، موقعًا بيعة فعليه لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) شهدتها أكف المائة والعشرين ألفًا من الصحابة على مدى ثلاثة أيام([4])، على حصباء لاهبة وبين نسائم قيظ لافحة.

وعودًا على بدء، كان ينتظر من تلك الجموع المبادرة ايجابًا مع القول والفعل النبويين، والتحرك بما يتناسب والحرص النبوي في التأمين على أمته من الضلال المؤدي إلى الهلكة والخسران.

وعند رزية الخميس([5]) كما راق ابن عباس أن يسميها تجلى خذلان الأمة لنبيها، مشعرة له بأنَّها ستنحرف عمَّا خطه لها من منهج مؤمِّن من الضلال قبيل رحيله، فقال ابن عباس: ((يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ عَلَى خَدَّيْهِ تَحْدُرُ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]ٍ وَسَلَّمَ): ائْتُونِي بِاللَّوْحِ، وَالدَّوَاةِ - أَوِ الْكَتِفِ - أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَقَالُوا: رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]ٍ وَسَلَّمَ) يَهْجُرُ!)) ([6]).

ليعمَّ المحضر النبوي لغط واختلاف بعد جسارة ذلك الفظ على مقام النبوة؛ إذ أنَّه تفطن إلى مراد النبي (صلى الله عليه وآله) في توثيق ثقلي الهداية (القرآن والعترة) كتابًا؛ متلقفًا ذلك الفهم من قرينة قول النبي (صلى الله عليه وآله): ((لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا)) التي طالما سمعها في ضمن حديث الثقلين مرارًا، فيبادر بالقول ((حسبنا كتاب الله)) رادًا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفظاظته ومشعرًا إياه أنَّ لا مكان للعترة في العهد الجديد، وقد صرَّح بفعلته الشنعاء تلك إذ قال ابن عباس راويًا ذلك: ((قال: دخلت على عمر بن الخطاب في أول خلافته، وقد ألقي له صاع من تمر على حصفة، فدعاني للأكل، فأكلت تمرة واحدة...، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت بني عمك؟  فظننته يعني عبد الله بن جعفر، فقلت: خلفته يلعب من أترابه، قال: لم أعن ذا، وإنَّما عنيت عظيمكم أهل البيت؟ قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخلات له وهو يقرأ القرآن، فقال: يا عبد الله! عليك دماء البدن إن كتمتنيها، أبقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم. قال: أيزعم أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعلها له؟ قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عمَّا يدعيه، فقال: صدق، قال عمر: لقد كان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرًا، وقد كان يزيغ في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضة أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك ... فعلم رسول الله (ص) أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم)) ([7]).

أمسك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتابة الكتاب لئلا يُزاد في الجرأة على مقامه الشريف ويُطعن في ناموس النبوة، وأنَّ الذي منعوه من كتاب هنا بمحضر ثلة قد وثقه في الغدير قبل أيام قليلة من لحظة الاحتضار تلك إقرارًا وبيعة وبخبخة بمحضر العشرات، الذين قد رأى بعضهم في فعل النبي غلوًا تجاه أمير المؤمنين، ولكن لمَّا ينفث الشيطان بعد في صدر كبيرهم تطاولًا كفرية الهجر.

الهوامش:
[1])) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، (ت: 241هـ): 18/114، ح11560.
[2])) عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): إنِّي سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ((ليس من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما منه حرف إلا وإن له تأويل، {وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم}، الراسخون نحن آل محمد)): كتاب سليم بن قيس: 306.
[3])) السنن الكبرى، النسائي (ت: 303هـ): 3/310، ح8092.
[4])) روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، (ت: 508): 99، الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، (ت: 548): 1/84.
[5])) مسند أحمد: 5/ 351، ح 3336.
[6])) كان ابن عباس يقول: ((إنَّ الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم، مسند أحمد: 5/ 135، ح2990.
[7])) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، (ت: 656): 12/ 20-21.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3016 Seconds