خُطَى الخُزَاعي
حكى الله تعالى في أكثر من موضع في كتابه الكريم عن قضية السجود لآدم؛ تلك القضية الأبرز على مسرح الحدث في أول الخلقة، معطيًا بتلك الحكاية المكررة المنوعة عناية واهتمام لا يجدر بالمتعبد العاقل أن يتعداهما بلا توقف وتأمل، بعد أن علم أنَّ الله تعالى منزه عن قول اللغو وفعل العبث؛ وأنَّ كل ما يصدر منه بقدر ولغرض، وبعد أن علم من النقل أنَّ لتلك القضية تداعيًا سيمتد مع تعاقب الخلق إلى حيث الوقت المعلوم، ليصبح واضحًا أنَّ التكليف الإلهي لم ينته عند حضور ذلك المشهد؛ بل سيرافق الخلق ممايزًا بينهم على أساس التعبد للأمر الإلهي من عدمه، فيُدرَك بعد ذلك أنَّ في تلك الحكاية تأصيل للتكاليف الإلهية، التي ستتخذ صورًا متنوعة والمؤدى إلى حيث الغرض المنظور من خلقة عالم الممكنات.
ممَّا تقدَّم أنَّ محور الحدث كان أمرًا إلهيًا لعقلاء ذلك المشهد بالسجود لآدم المودع فيه من لدن الله تعالى من الكمال ما جاوز به الملائكة مستوى فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 31-33)، فينقسم مكلفو السجود إلى مطيع متعبد وعاصٍ مستكبر، ليصبح التعاطي والأمر الإلهي قبولًا أو رفضًا بمثابة مفترق طرق بين الملائكة وإبليس، فقال تعالى حاكيًا عن ذلك الافتراق بذكر الامتثال من لدن الجمع المخاطب بالسجود باستثناء إبليس: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الأعراف:11)، ولا نقف عند ما ادّعاه إبليس في مغالطته التي اتخذ منها ذريعة في عدم سجوده لآدم ومخالفته لأمر الله تعالى من قياس لا اعتبار له في ميزان العقلاء، بل نمر على ما نُعتَ به من لدن الحق تعالى بعد عصيانه، إذ نسبه إلى الاستكبار والكفر والفسق، {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 34)، {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50)، ثم وصفه بأنَّه عدو لمن يريد التكامل، وإن من يتبعه ظالم، وغير مؤمن، وسيحرم من الجنان، فقال عزَّ من قائل موردًا تلكم المعاني: {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه:117)، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ،20)، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (الكهف:50).
وإنَّ حدث السجود بتفصيله قد جُعِل مثل للتكليف الإلهي القاضي بتنصيب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خليفة على الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم غدير خم منصرف الناس من حجة الوداع، جاريًا ذلك على لسان الإمام الرضا (صلوات الله عليه) إذ قال: ((ومثل المؤمنين في قبولهم ولاء أمير المؤمنين في يوم غدير خم كمثل الملائكة في سجودهم لآدم، ومثل من أبى ولاية أمير المؤمنين في يوم الغدير مثل إبليس، في هذا اليوم أنزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم}))([1]).
فيتحصل من هذا التشبيه أمورٌ منها:
أنَّ ولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) تكليف إلهي لا يقبل الله تعالى بديلًا عنه كما لم يقبل من إبليس أن يبدله بأي تكليف آخر غير السجود لآدم حين قال: ((يا ربِّ اعفني من السجود لآدم (عليه السلام) وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال الله تبارك وتعالى: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنِّما أريد ان أُعبد من حيث أريد لا من حيث تريد، فأبى أن يسجد، فقال الله تعالى: {فأخرج منها فإنَّك رجيم* وإنَّ عليك لعنتي إلى يوم الدين} (ص:77-78)))([2]).
وعليه سيكون لا مناص من تكليف الغدير وإنَّ ليس له من تكليف بديل، وبالتالي إنَّ التشبث ببدائل ما يتصور أنَّها تكاليف مردود من لدن الحق تعالى لعدم تحقق التعبد الواقعي الذي يتحصل حصرًا من امتثال التكاليف المنطوية على مرادات الله تعالى، كذلك لا يمكن أن يتصور عقلًا وحكاية عن القرآن أنَّ هناك ثلاثة صور للتعاطي والتكليف الإلهي، فلا يخلو الأمر من امتثال محض كما في الملائكة أو عصيان محض كما في إبليس، بلا تصور أن هناك مسلكًا ثالثًا يجمع بين الضدين، وبإسقاط ذلك على تكليف الغدير نقول ليس من المتصور أن يحسب إلى فئة الممتثلين لبيعة الغدير من يعتقد بأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعتقد بغيره، فكان التكليف بالولاية كما السجود مفترق طريقين لا ثالث لهما، إلا أن يتصور طريق النفاق ثالثًا.
كذلك إنَّ من إفادات التشبيه بين التكليفين، أنَّ من قابل بيعة الغدير بالتعطيل العملي([3]) لها يكون قد استأهل كل نعت ثبت لإبليس من استكبار، وكفر{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44)، وفسق {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة: 47)، وما أن سيغري غيره بسلوك طريق عصيان أمر الله برفض ولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، سيكون ذلك التابع خارجًا عن حد الإيمان، ظالم لنفسه إذ جعل منها عرضة لسخط الإله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)، وسيسلك ذلك المتبوع بتابعيه كما إبليس طريقًا نائية عن الجنان.
ولعل من أجمل ملتقيات هذين التكليفين، أنَّ النهاية واحدة لكل من جحد التكليفين، على يد وارث أمير الغدير، ذلك الذي سيعلن ولاية الله على الأرض؛ فتنهار على يديه ولاية إبليس وولاية معطلي الغدير ومصادريه فعن وهب بن جميع قال: ((سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول إبليس: {ربِّ فانظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قال له وهب: جعلت فداك أي يوم هو؟ قال: يا وهب أتحسب أنَّه يوم يبعث الله فيه الناس؟ إنَّ الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه، فيقول: يا ويله من هذا اليوم فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم)) ([4]).
اللهم اجعلنا ممن مننتَّ عليهم بالفوز في تكليف الولاية، ومن المنتظرين لمن يبسطها على الأرض طولًا بعرض بمحمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1] إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس (ت: 664): 2/262.
[2] تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي (ت: نحو 329): 1/42.
[3] أقرَّ من حضر غدير خم بولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) على مستوى القول والبيعة الظاهرية، أما على المستوى العملي كان مثلهم كمثل إبليس في العصيان.
[4] تفسير العياشي، حمد بن مسعود العياشي (ت: 320): 2/ 242.