بقلم: الشيخ محسن علي المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
أما بعد:
تناولنا في المقال السابق بعض المؤهلات التي امتازت بها شخصية أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ونكمل هنا ما تبقى من هذه المؤهلات، فكانت المثالية في كل خلق من أخلاقه عليه السلام.
قال إمام الحكمة عليه السلام: «في تَقَلُّبِ الأَحْوالِ عِلْمُ جَواهِرِ الرِّجَالِ»[1].
ولقد عاش الإمامُ مراحلَ عمرِه والإسلامَ في كافة أدواره، واقترن برسول الله (صلى الله عليه وآله) كالضوء من الضوء والذراع من العضد، بل كان ظلّه وروحه ونفسه، فقام دونه وحماه، صبيًّا وغلامًا وفتيًّا، وخاض غمار الحروب، وشهد المواقف وأبلى فيها البلاء الحسن الجميل.
ولقد جهر بها حقيقة جليّة، وحقًّا صراحًا، يُحَمِّلُها شهادةَ صدقٍ مَنْ أدركها وحفظ ووعى ولم يرن على قلبه الهوى:
«وَلَقَدْ عَلِمَ المُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ، وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي المَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الاَْبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الأقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا»[2].
وما إن غربت شمس النبوة حتى أعتم الليل وعمّ الظلام، فطفق وليُّ الأمر من بعده يرتئي بين أن يصول بيد جذّاء، أو يصبر على طخية عمياء، يهرم عنها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه.
فرأى أن الصبرَ على هاتا أحجى، فصبر وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، يرى تراثه نهبًا، وحقه مستلبًا مضيعًا.
كما صور تلكم الظلامة في (الشقشقية):
«فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الحَسَنَانِ[3] وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بَلَى وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا»[4].
وما إن فاء الحق الى أهله، واعتدل الميزان، ونشط لبسط العدل- اندلعت عليه الفتن، وفغرت الفواغر، وتداعت الأحزاب، وأشعلوها حروبًا لا تبقي نارها ولا تذر «أَلَا وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ وَالنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا المَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ... وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ البَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ البِلَادِ تشَذُّرًا»[5].
وتمنى لو سكنت نائرة الفتن وثائرة المحن فيحيي الحق وينشر الإصلاح.
«لَو قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ الَمدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءً»[6].
وتجلّى في ذلكم المعترك الشائك، والطوفان الهائج المتلاطم، والمحن المنيخة والاضطراب الشامل، والخذلان المدمر- (عليٌّ) أي شخصية هو؟ وأي جوهر؟ قمة فكر، ومنارة علم، ونبراس هدى، وبطل حرب، ورِقَّةُ روح، وسجاحة خُلُق، ورائد سياسة، وربُّ الفصاحة والبلاغة، وجماع الخير.
ولنعمد لطرف من رائع كمالاته، وشذرة من خلائقه، وسيرته الحاكية لقدس سريرته.
وسأعرض لجملة مما حفلت به حياته في متنوع الشؤون، ومختلف الأوضاع في سلمه وحربه، ومع أوليائه وأعدائه، ومع ولاته ورعيته، وفي خاصة ذاته وهي نبع الكمالات، ومعدن الفضائل والفواضل، مقتصرًا على شواهد ومشاهد غيضًا من فيض، ورشحة من منهل عذب، سلسل رقراق.)[7].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة حكمة 217/507. وهذا الفصل مما أضيف في الطبعة الثانية.
[2] نهج البلاغة خ197/211.
[3] وفي ضبط آخر: (الحسْنان) أي (الإبهامان)، وهو الأصح.
[4] نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية، خ3/48.
[5] نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية، خ192/299-300.
[6] نهج البلاغة، حكمة 272/523. المداحض: المزالق.
[7] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص 78- 79.