الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((في خطبة يصف فيها النبي صلى الله عليه وآله))

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((في خطبة يصف فيها النبي صلى الله عليه وآله))

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-02-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
حَتَّى بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله، شَهِيداً وبَشِيراً ونَذِيراً، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا، وأَنْجَبَهَا كَهْلًا، وأَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً، وأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً – إلى أن يقول عليه السلام في بني أمية:- فَمَا احْلَوْلَتْ ل(َكُمُ الدُّنْيَا)[1] فِي لَذَّتِهَا، ولَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا ،  إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلًا خِطَامُهَا،  قَلِقاً وَضِينُهَا ،  قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ، بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ ،  وحَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ  وصَادَفْتُمُوهَا –واللَّه- ظِلاًّ مَمْدُوداً، إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ ،  فَالأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ   وأَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ ، وأَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ، وسُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ،  وسُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ .
  أَلَا وإِنَّ [2] لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً،  ولِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً ،  وإِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِه ،  وهُوَ اللَّه الَّذِي لَا يُعْجِزُه مَنْ طَلَبَ،  ولَا يَفُوتُه مَنْ هَرَبَ.
  فَأُقْسِمُ بِاللَّه يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ ،  لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ ،  وفِي دَارِ عَدُوِّكُمْ أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُه!  أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وقَبِلَه..[3]

شرح الألفاظ الغريبة:
الشِّيمة: الخُلُق؛ الديمة: - بكسر الدال – المطر يدوم في سكون، والمُسْتَمْطَر: - بفتح الطاء – من يطلب منه المطر؛ الأخلاف: جمع خلق – بكسر الخاء وسكون اللام – حملة ضرع الناقة؛ الخطام: - ككتاب – ما يوضع في أنف البعير ليقاد به؛ الوضين: بطان عريض منسوج من سيور أو شعر يكون للرحل كالحزام للسرج؛ السدر: - بالكسر، شجر النبق، والمخضود: المقطوع شوكه؛ شاغرة: خالية[4].

شرح ابن ميثم البحراني:
قوله: ((حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله...)) إلى قوله: ((من بعده)).

افتخار به صلى الله عليه وآله وسلم ومدح له بالقوة في الدين وتوبيخ لجمع الدنيا ومحبيها بعده، وهو غاية لفصل سابق كأنه ذكر فيه ما كانوا عليه من سوء الحال والقشف والفقر، ومن عليهم بذكر هذه الغاية الحسنة لتلك الأحوال ووصفه بأوصاف:
أحدها: كونه ((شهيداً)): أي على الخلق بأعمالهم يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾[5]، وقد عرفت كيفية هذه الشهادة.
الثاني: ((وبشيراً للخلق)):  بما أعد لهم من الثواب العظيم.
الثالث: ((ونذيرا لهم)) بما أعد للعصاة من العذاب الأليم وينتظم هذه الأوصاف قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾[6]، والثلاثة أحوال.
الرابع: ((خير البرية طفلا)): ولما علمت أن الأفضلية إنما هي بالأعمال الصالحة والتسديد لسلوك سبيل الله، وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم منذ صباه وطفوليته أفضل الخلق في لزوم ذلك القدم لا جرم كان خير الناس طفلاً.
الخامس: ((وأنجبها كهلاً)) ولما كانت النجابة مستلزمة لكرم الخصال والتقاط الفضائل وتتبعها، وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم في كهولته ودعوته منبع كل فضيلة؛ لا جرم كان أنجبهم كهلاً.  وطفلاً وكهلاً: منصوبان على الحال أيضاً.
السادس: كونه ((أطهر المطهرين شيمة)): ولما كان صلى الله عليه وآله وسلم متمم مكارم الأخلاق الطاهرة، وكل خلق عدل فمنه مكتسب؛ لا جرم كان أطهر الشيمة وأكرم الخلق.
السابع: ((أجود المستمطرين ديمة)): استعار له وصف السحاب المرجو منه نزول الديمة وهي المطر الذي لا رعد فيه ولا برق، ورشح بلفظ الديمة وكنى بذلك عن غاية جوده وكرمه، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمسى آوى إلى البيت فلا يجد فيه شيئاً من فضة أو ذهب إلا تصدق به ولم يبت في بيته منه شيء، وشيمة وديمة تمييزان.
وقوله: ((فما احلولت لكم الدنيا في لذاتها...)) إلى قوله: ((من بعده)):
الخطاب لبني أمية ونحوهم، وتبكيت لهم بتطعمهم لذة الدنيا وابتهاجهم بها وتمكنهم منها بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتذكير لهم بمخالفتهم لسنته في ذلك. واستعار لفظ الأخلاق وكنى به عن وجوه مكاسب الدنيا ولذاتها، ورشح تلك الاستعارة بذكر الرضاع، وكنى به عن تناولها ملاحظة لتشبيهها بالناقة.

وقوله: ((وصادفتموها...)) إلى قوله: ((غير موجود)):
استعار لها لفظ الخطام والوضين، ورشحهما بالقلق والجولان، وكنى بذلك من مصادفتهم للدنيا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير منظومة الحال ولا مضبوطة على ما ينبغي لضعف ولاتها عن إصلاح حالها، كما أن الناقة قلقة الحزام، وجائلة الخطام غير منظومة الآلة ولا مضبوطة الحالة، فهي بمعرض أن تمشي وتنصرف على غير استقامة فهلك راكبها.
ثم ذكر رذيلة القوم، فشبه حرامها بالسدر المخضود معهم.
ووجه الشبه أن نواهي الله ووعيداته على فعل المحرمات تجري مجرى الشوك للسدر في كونها مانعة منه، كما يمنع شوك السدر جانبه من تناول ثمرته ولما كان بعض الأمة قد طرح اعتبار النواهي والوعيد جانباً عن نفسه وفعل ما حرم عليه؛ جرى ذلك عنده مجرى تناوله للسدر الخالي عن الشوك في استسهاله تناوله وإقدامه عليه.
وكون ((حلالها بعيدا غير موجود)) أي بين أولئك المشار إليهم، ((وجائلاً وقلقاً)) حالان.
قوله: ((وصادفتموها والله...)) إلى قوله: ((معدود)):
استعار لفظ الظل لها ورشح بالممدود وكنى بذلك عن زوالها بعد حين تهديداً لهم به، ثم استعار لفظ الشاغرة للأرض وكنى به عن خلوها لهم يقال: بقي الأمر الفلاني شاغراً برجله إذا لم يكن له طلب ولا حام يحميه وكنى ببسط أيديهم فيها: عن قدرتهم على التصرف وأراد بالقادة بالخلفاء وبسلاطة سيوفهم على القادة جرأتهم وحكمهم عليهم وبقبض سيوف القادة عدم تمكنهم منهم.
وقوله: ((ألا إن لكل دم ثائراً...)) إلى قوله: ((من هرب)):
تهديد بالله لبني أمية وتخويف بأخذه وعقابه وهاتان الكليتان ظاهرتا الصدق؛ فإنه تعالى هو الثائر لكل دم معصوم والطالب به إن عدم طلبه أو ضعف ولما كان دم مثلهم عليه السلام وسائر الصحابة – ممن عصم الله دمه ومنع منه وحرمه – يجري مجرى الحق الثابت المتعارف لله في كونه يطلب به ولا يهمله وهو الحاكم المطلق؛ لا جرم استعار لفظ الثائر، وإنما قال: كالحاكم؛ لأن إطلاق لفظ الحق لله تعالى به ليس بحقيقة إذ الحق ومن شأنه أن ينتفع بأخذه ويتضرر بتركه  والباري منزه عن ذلك لكن لما جرى ذلك الدم مجرى الحق له تعالى وكان هو الآخذ به؛ أشبه الحاكم منا في استيفاء الحق.
ووصفه تعالى بأنه لا يعجزه مطلوب ولا يفوته هارب في معرض التهديد لهم بأخذه وقوته.
ثم أردف ذلك بالقسم البار مخاطباً لبني أمية: ((لتعرفنها)): أي الدنيا وإمرتها في يد غيرهم من اعدائهم وذلك ظاهر الصدق بانتقالها إلى بني عباس.

ثم شرع بعده في التنبيه على الفكر في تحصيل الساعدة الباقية والخير الدائم وعلى قبول الوعظ والتذكر فأشار إلى أنه أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه وأسمع الأسماع ما وعى التذكير فقبله وأراد بطرف البصر العقل وسمعه استعارة أو حسن البصر والسمع على معنى ان أفضل إبصار البصر وسماع السمع ما عاد على المبصر والسامع بالفائدة المطلوبة منها وهي تحصيل الكمالات النفسانية من العلوم والأخلاق.
ولما قدم ذلك أما م مقصود أيه بالناس بعده إلى قبول قوله والاستصباح بنوره، وستعار لنفسه لفظ المصباح، ورشح بذكر الشعلة والاستصباح واستعار لفظ العين ورشح بذكر الصفو والترويق والمتح.

ووجه الاستعارة الأولى: كونه مقتدى به كالمصباح.
ووجه الثانية: كونه المستفاد منه مادة الحياة الأبدية كما أن ماء العين الحياة الدنيوية وكنى بترويقها من الكدى عن رسوخه فيما علم بحيث لا يتطرق إليه فيه شبهة تكدر يقينه وهو أمر لهم بالاهتداء به وأخذ العلوم والأخلاق عنه.
ثم لما أمر بأخذهما عنه أردفه بالنهي عن الجهل والركون إليه ثم عن الانقياد للأهواء الباطلة المخرجة عن كرائم الأخلاق إلى رذائلها، وعن حق المصالح إلى باطلها[7].)([8]).

الهوامش:
[1] ما بين القوسين في نهج الشيخ العطار: الدنيا لكم.
[2] في نهج البلاغة لصبيح صالح: وإنّ.
[3] نهج البلاغة لصبحي صالح: 151/ خطبة رقم 105، ونهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 199-200/ خطبة رقم 104، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 22-23/ خطبة رقم 102، وفي نهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 216-217.
[4] شرح الألفاظ الغريبة: 612.
[5] النساء: 41.
[6] الفتح: 8.
[7] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 24- 27/ شرح الخطبة رقم 102.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 86-92.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2944 Seconds