بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
في خطبة له عليه السلام يعظ فيها ويزهد في الدنيا ومنها في عظمة الناس قال عليه السلام
فَإِنَّه واللَّه الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، والْحَقُّ لَا الْكَذِبُ، ومَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ[1] دَاعِيه، وأَعْجَلَ حَادِيه، فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وفَقَدْ[2] رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ، وحَذِرَ الإِقْلَالَ، وأَمِنَ الْعَوَاقِبَ - طُولَ أَمَلٍ، واسْتِبْعَادَ أَجَلٍ - كَيْفَ نَزَلَ بِه الْمَوْتُ فَأَزْعَجَه عَنْ وَطَنِه، وأَخَذَه مِنْ مَأْمَنِه، مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا، يَتَعَاطَى بِه الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ، وإِمْسَاكاً بِالأَنَامِلِ .
أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ[3] بَعِيداً، ويَبْنُونَ مَشِيداً، ويَجْمَعُونَ كَثِيراً! كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، ومَا جَمَعُوا بُوراً، وصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ، ولَا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ! فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَه[4] بَرَّزَ مَهَلُه، وفَازَ عَمَلُه.
فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا، واعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا[5] مِنْهَا الأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ - فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ - وقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ[6].
شرح الألفاظ الغريبة:
الموت اسمع داعيه: أي إن الداعي إلى الموت قد أسمع بصوته كل حيّ، فلا حيّ إلاّ وهو يعلم أنه يموت؛ أعجل حاديه: أي إن الحادي قد أعْجَلَ المدبرين عن تدبيرهم، وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم؛ برز الرجل على أقرانه: أي فاقهم، والمهل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره؛ اهتبل الصيد: طلبه، والضمير في هبلها للتقوى لا للدنيا؛ أي اغنموا خير التقوى؛ الوفر: - بتسكين الفاء وفتحها – العجلة، وجمعه أوفاز، أي كونوا منها على استعجال؛ الظهور: يراد بها هنا ظهور المطايا؛ الزيال الفراق[7].
الشرح:
قوله: ((فلا يعرنك...)) إلى قوله: ((وأمن العواقب)):
أي فلا تغرنك من نفسك الأمارة بالسوء وسوستها واستغفالها لك عن ملاحظة الموت برؤية سواد الناس: أي كثرتهم؛ إذ كثيراً ما يرى الإنسان الميت محمولاً فيتداركه من ذلك رقة وروعة، ثم يعاوده الوسواس الخناس ويأمره باعتبار كثرة المشيعين له من الناس، وأن يجعل نفسه من الأحياء الكثيرين بملاحظة شبابه وصحته ويأمره باعتبار أسباب موت ذلك الميت من القتل وسائر الأمراض، وباعتبار زوال تلك الأسباب في حق نفسه. وبالجملة فيبعد في اعتباره الموت بكل حيلة؛ فنهى السامعين عن الانخداع للنفس بهذه الخديعة وأسند الغرور على سواد الناس؛ لأنه مادته.
ثم نبههم بقوله: ((وقد رأيت...)) إلى قوله: ((يستعتبون)): على كذب تلك الخديعة مشاهدة، والواو في قوله: ((وقد))؛ واو الحال ومن في قوله: ((من جمع)): بدل البعض من الكل من قوله: ((من كان قبلك))، والمعنى أنه كما نزل بأولئك الموت وأزعجهم عن أوطانهم، فكذلك أنتم.
وقوله: ((طول أمل)) نصب على المفعول له، أي فعلوا ذلك لأجل طول الأمل، ويحتمل أن يكون مصدراً سد مسد الحال، ويحتمل أن يكون ظرفاً والعامل: أمن، وقيل: هو بدل من قوله: ((من كان قبلك))، أي رأيت طول أمل من كان قبلك ويروى: بطول أمل.
و((أعواد المنايا)): النعوش. و((يتعاطى به الرجال الرجال)): أي يسلمه الحاملون له بعضهم إلى بعض، والخطاب بالكاف لنوع المخاطب، أو لشخص على طريقة قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وقوله: ((فمن اشعر التقوى قلبة)): أي من اتقى تقوى حقيقة برزت تؤدته: أي ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهية في السكينة والوقار، والحلم والأناة عن التسرع إلى مطالب الدنيا، وعلمت راحته في الآخرة، وفاز عمله فيها بالجزاء الأوفى.
ثم أمرهم بإحكام التقوى: أي أن تتقوا الله تقوى حقيقة؛ فإنها التي يستحق بها الثواب الدائم وأن يعملوا للجنة عملها التي تستحق به.
ثم نبههم على وجوب العمل للجنة بالتصريح بما لأجله خلقت الدنيا، وأنها لم تخلق دار إقامة، بل طريقاً يعبر بها إلى الآخرة، كما يعبر المسافرون، ويتزود منها الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وأمرهم أن يكونوا فيها على سرعة في قطع عقباتها، وعجل في الارتحال عنها؛ لأن التأني فيها يستلزم الالتفات إلى لذاتها والغفلة عن المقصد الحق.
واستعار لفظ الظهور: وهي الركوب لمطايا الآخرة، وهي الأعمال الصالحة وتقريبها للزيال هو العناية الإلهية بالأعمال المقربة إلى الآخرة، المستلزمة للبعد عن الدنيا والإعراض عنها، ومفارقتها[8])([9]).
الهوامش:
[1] في شرح نهج البلاغة لابن ميثم: قد أسّمَعَ.
[2] في نهج البلاغة لصبحي صالح: وقد.
[3] في شرح نهج البلاغة لابن ميثم: يُوَمِّلون.
[4] في نهج الشيخ محمد عبده: رَبًّهُ) بدل (قَبلْبَهُ).
[5] في نهج البلاغة الشيخ محمد عبده: لتزودوا عملها.
[6] نهج البلاغة لصبحي صالح: 189-190/ خطبة رقم 132، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 252-254/ خطبة رقم 132؛ وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 150-151/ ضمن كلام له عليه السلام رقم 131؛ ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 268-269.
[7] شرح الألفاظ الغريبة: 624.
[8] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 151-152/ شرح كلام له عليه السلام رقم 131. وقد أوردها ابن ميثم في قسم من كلامه عليه السلام.
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 135-139.