بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
وجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَه فِيهِمَا مِنْ عِبَادِه، ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَه الْمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيِّزَ([1]) الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَه وهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ ومَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: ﴿إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُه ونَفَخْتُ فِيه مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَه ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ﴾([2])،اعْتَرَضَتْه الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِه، وتَعَصَّبَ عَلَيْه لأَصْلِه.
فَعَدُوُّ اللَّه إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، ونَازَعَ اللَّه رِدَاءَ الْجَبَرِيَّةِ([3])وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَه اللَّه بِتَكَبُّرِه، ووَضَعَه بِتَرَفُّعِه فَجَعَلَه فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وأَعَدَّ لَه فِي الآخِرَةِ سَعِيراً([4])؟!
شرح الألفاظ الغريبة:
القصع: ابتلاع الماء والجرة، وقصعت الرجل قصعاً: صغرته وحقرته، وقصعت هامته: إذا ضربتها ببسط كفك، وقصع الله شبابه: إذا أبقى قميئاً فهو مقصوع لا يزداد وأصل هذه الكلمة للتصغير والتحقير؛ والجبرية والجبروت: الكبر؛ وادرعه: لبسه كالدرع، والدحر: الطرد([5]).
سبب الخطبة وأسباب تسميتها:
نقل في سبب هذه الخطبة، أن أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السلام قد فسدوا وكانوا قبائل متعددة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدنى مكروه فيستعدي قبيلته، وينادي باسمها مثلاً يا للنخع أو بالكندة نداءً عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي قد مر بها وينادون يا ليتم يا لربيعة فيضربونه فيمر إلى قبيلته ويستصرخ بها وتسل بينهم السيوف وتثور الفتنة ولا يكون لها أصل في الحقيقة ولا سبب يعرف إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض وكثر ذلك منهم فخرج عليه السلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة، وقد ذكر الشارحون في تسمية هذه الخطبة القاصعة وجوهاً:
أحدها: وهو أقربها أنه عليه السلام كان يخطبها على ناقته وهي تقصع بجرتها فجاز أن يقال: إن هذه الحال لما نقلت عنه في أسناد هذه الخطبة نسبت الخطبة إلى الناقة القاصعة فقيل: خطبة القاصعة، ثم كثر استعمالها فجعلت من صفات الخطبة نفسها، أو لأن الخطبة عرفت بهذه الصفة لملازمة قصع الناقة لإنشائها، والعرب يسمى الشيء باسم لازمه.
الثاني: سميت بذلك لأن المواعظ والزواجر فيها متتابعة فأشبهت جرات الناقة وتتابعها.
الثالث: سميت بذلك لأنها هاشمة كاسرة لإبليس، ومصغرة ومحقرة لكل جبار. وهو وجه حسن أيضاً.
الرابع: لأنها تسكن نخوة المتكبرين وكبرهم فأشبهت الماء الذي يسكن العطش فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه إذا سكنه وأذهبه.
واعلم أن مدار هذه الخطبة على النهي عن الكبر والتوبيخ عليه وعلى ما يلزمه من الحمية والعصبية لغير الله تعالى ليكون الناس على ضد ذلك من التواضع والرفق، وقد علمت في المقدمات أن من شأن الخطيب أن يورد في صدر الخطبة ما ينبه على المطلوب الذي يورده بقول كلي ليتنبه السامعون لما يريده إجمالاً فلذلك صدر عليه السلام الخطبة بنسبه العز والكبرياء والعظمة إلى من هو أولى به وهو الله تعالى، وأشار إلى أن ذلك خاصة له وحرام على غيره، وذكر إبليس وقصته مع آدم عليه السلام في معرض الذم بتكبره عليه ليترتب على ذكره وذمه بتلك الرذيلة النهي والتحذير عن ارتكابها وليحصل التنفير بحاله إذ كان بذلك ملعوناً مطروداً على ألسنة الأنبياء بأسرهم([6]).
الشرح:
قوله: ((ليميز المتواضعين من المستكبرين)): ترشيح لاستعارة الاختبار لأن التميز من لوازمه وعوارضه، ويحتمل أن يريد ليميز المطيعين عن العصاة بإعطاء الثواب لهم دونهم فلا يكون التميز بمعنى العلم بل الانفصال الخارجي لكل من المطيعين والعصاة بما يستحقه من ثواب وعقاب.
وقوله: ((وهو العالم...)) إلى قوله: ((الغيوب)): قرينة مخرجة للاختيار عن حقيقته وهي جملة معترضة بين القول والمقول للملائكة وهو قوله تعالى: ﴿إِنِّ خَالِقٌ﴾([7]) إلى آخره، والمختبر به هو قوله: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾([8]).
قولا بعض الشارحين: إنما اختبرهم مع علمه بمضمراتهم لأن اختباره تعالى ليس ليَعْلَم بل ليُعلِم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي، قال: وقوله: ﴿لنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾([9]) وقوله: ﴿لنَعْلَمَ مِن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ ينَقْلَبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾([10]): أي لتعلم أنت وغيرك، وفيه بعد.
وقد شرحنا قصة الملائكة وإبليس وآدم في الخطبة الأولى بقدر الوسع فلا حاجة إلى التطويل بالإعادة غير أن هاهنا ألفاظاً يحتاج إلى الإيضاح.
وافختار إبليس وتعصبه وتكبره على آدم في قوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾([11]) وقوله: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾([12])، ﴿قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾([13]) فكان تعصبه عليه واستكباره نظراً إلى أصلهما، إمام المتعصبين باعتبار كونه المنشأ لرذيلة ال عصبية في غير الحق والمعتدى به فيها.
وأمّا العصبية في الحق فهي محمودة كما جاء في الخبر: العصبية في الله تورث الجنة، والعصبية في الشيطان تورث النار([14]). وكذلك كونه سلفاً للمتكبرين باعتبار تقدمه للمتكبرين بالاستكبار على آدم، والسلف هو المتقدم.
وقوله: ((الذي وضع أساس العصبية)): إذا كانت عصبيته لأصله كالأساس للخلق يبني عليه الخلق سائر العصبيات ويقتدى به فيها.
وقوله: ((ونازع الله رداء الجبرية)): أي بتجبره وتكبره، وقد عرفت وجه الاستعارة في المنازعة في الرداء.
وكذلك قوله: ((وادرع لباس التعزز)): لما استعار لفظ الادراع لإبليس من جهة اشتماله وتلبسه بالتعزز رشح بذلك اللباس.
وكذلك قوله: ((وخلق قناع التذلل)): استعارة للفظ الخلع وترشيح بلفظ القناع.
وقوله: ((ألا ترون....)) إلى قوله: ((بترفعه)): تنبيه على كيفية تصغير الله إياه ووضعه له بسبب تكبره وتعظمه وذلك التصغير والوضع هو جعله في الدنيا مدحوراً بعد إخراجه من الجنة بقوله تعالى: ﴿اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾([15]).
((واعداده في الآخرة سعيراً)) بقوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾([16]) ونحوه([17]))([18]).
الهوامش:
([1]) في نهج صبحي صالح وابن ميثم ومحمد عبده: لَيِميزَ.
([2]) سورة ص: 71-74.
([3]) في نهج البلاغة لصبحي صالح: الجَبْرِيَّةِ.
([4]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 285-286/ خطبة رقم 192، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 381-383/ خطبة رقم 192، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 232-233/ خطبة رقم 234، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 396-397.
([5]) شرح الألفاظ الغريبة في شرح نهج ابن ميثم 4: 234.
([6]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 233-235.
([7]) سورة ص: 71.
([8]) سورة ص: 72.
([9]) الكهف: 12.
([10]) البقرة: 143.
([11]) الأعراض: 12.
([12]) الإسراء: 61.
([13]) الحجر: 33. والآية في شرح نهج ابن ميثم: ﴿أأسجُدُ لِبَشَر... مَسْنُونٍ﴾.
([14]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 128/ خطبة رقم 234، خطبة القاصعة.
([15]) الأعراف: 18.
([16]) سورة ص 85.
([17]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 233-239/ شرح الخطبة رقم 234.
(([18])) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 223-228.