بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ والِاجْتِهَادِ، والتَّأَهُّبِ والِاسْتِعْدَادِ، والتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ، ولَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، والْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وأَصَابُوا غِرَّتَهَا، وأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، ولَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ، ولَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ، فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ، غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا، ولَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، ولَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا([1]).
شرح الألفاظ الغريبة:
الدّرّة: - بالكسر – اللين؛ الغِرّة: - بالكسر الغفلة؛ اخلفوا جدّتها: جعلوا جديدها قديماً خَلَقاً؛ الأجداث: القبور؛ يَحْفَلُون: يبالون؛ مُلْبِسَةُ نزوع: ما ألبست إلّا نزعت لباسها عمّن ألبسته؛ يَرْكُدُ: يسكن([2]).
الشرح:
أردف ذكر الموت ولوازمه بالحث على العمل والجد فيه والتأهب والاستعداد لنزول الموت وما بعده والتزود: أي بالتقوى في منزل الزاد وهو الدنيا لأنّها المنزل الذي لا يمكن تحصيل الزاد إلى الآخرة إلّا فيه، أضافه إليه، ثمّ بالنهي عن الانخداع لغرور الدنيا كانخداع السابقين والقرون الماضين، واستعار لفظ الدرّة لمنافع الدنيا وخيراتها، ولفظ الاحتلاب لجمعها واقتنائها: أي الذين فازوا بخيراتها وحصلوا عليها، ولذلك استعار لفظ الغرّة لعدم وصول حوادثها إليهم في مدّة استمتاعهم بها فكأنّها غافلة عنهم لا ترميهم بشيء من المصائب فلما وجدوا ذلك منها أخدوا ما أخذوا وخصلوا على ما حصلوا.
وإفناؤهم لما تعدّد فيها من مأكول وملبوس وغيرهما مما يستمتع به فيغني، وكذلك إخلاقهم لجدّتها كناية عن استمتاعهم بما أخذوا منها من صحّة ومال وغيرهما إلى انقضائه وانتهاء مدّته حتّى كأنّهم لم يبقوا من محاسنها شيئاً إلّا أخلقوه.
ولما وصف حالهم فيها بما وصف أردف ذلك بذكر غايتهم منها وهي الأحوال المذكورة بقوله: ((أصبحت مساكنهم أجداثاً...)) إلى قوله: ((دعاهم)).
وخلاصة الكلام أنّكم لا تغتروا بالدنيا كما اغتر بها من كان قبلكم فإن أولئك مع أنهم كانوا قد صادفوا غرتها وحصلوا منها على ما حصلوا من خيراتها كانت غايتهم منها أن وصلوا إلى ما وصلوا من العدم فكذلك أنتم بطريق أولى.
ثمّ أكدّ التحذير منها بذكر أوصافها المنفردة عنها فاستعار لها لفظ الغرارة باعتبار كونها سبباً ماديّاً للاغترار كما سبق، ولما كان الخداع هو المشورة بأمر ظاهر مصلحة اتباعها، وكانت تلك الزينة واتباعها لما فيها من الفتنة بها عن سبيل الله الذي هو عين المفسدة تشبه المفسدة في باطن الرأي لا جرم أشبه ظهر زينتها الخداع فاستعار لها لفظ الخدوع بذلك الاعتبار، وكذلك استعار لفظ المعطية، ولفظ المنوع باعتبار كونها سبباً للانتفاع بها فيها من خيراتها وسبباً ماديّاً لمنعه، وكذلك لفظ الملبسة النزوع، وراعى في هاتين القرينتين المقابلة، وفائدتها هاهنا التنفير عما يتوهم فيها خيراً مما تعطيه وتلبسه ذكر استعقابها لمقابلتهما من منعها لما تعطيه ونزعها مما تلبسه، ولذلك أكده بقوله: ((لا يدوم رخاؤها...)) إلى آخره، ولما كان رخاؤها من صحة وشباب ومال وجاه ونحوها من سائر الملذات البدنية حوادث مشروطة باستعدادات سابقة عليها ومعدات غير مضبوطة كثيرة حادثة وغير حادثة سريعة التغير أو بطيئة لا جرم كان من شأن ذلك الرخاء التغير والانقطاع وظاهر أن انقطاع رخائها حالاً فحالاً مستلزم لعدم انقضاء عنائها ومتاعبها، وتواتر بلائها، واستعار لبلاء الدنيا وصف عدم الركود ملاحظة لشبهه بالريح دائمة الحركة لكونه دائماً([3]))([4]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 352/ ضمن الخطبة رقم 230، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 468-469/ ضمن الخطبة رقم 229، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 100-101/ ضمن خطبة رقم 221، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 487-488.
([2]) شرح الألفاظ الغريبة: 672.
([3]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 160-107/ شرح الخطبة رقم 221.
([4]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 272-275.