الباحِث: سَلَام مَكّيّ خضَيّر الطَّائيّ.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على رسول الله مُحمَّد، وآله الغُرّ الميامين واللعن الدَّائم على ناكري مكانتهم ومغتصبي حقِّهم إلى قيامِ يوم الدِّين.
أمَّا بعد...
فهناك العديد من الواجبات الشَّرعيّة الأخلاقيَّة المفروضة والمترتّبة على الفرد المسلم، منها: الصّوم والصَّلَاة وغيرها، واحترام الكبير والعطف على الصَّغير وبر الابن لأبويه وغيرها من الواجبات المترتبة على الفرد وبدوره يكون ملزما بتأديتها على أتم وجه شرعي، فمن هذه الواجبات المفروضة التي يعالجها محور موضوعنا هذا، هو الواجب الشَّرعي الأخلاقي (بر الوالدين)، وهي من أكبر الفرائض التي فُرِضت على الفرد، كما روي عن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) قوله: (برّ الوالدين أكبر فريضة)[1].
فالوالدان هما نعمة من نعم الله تعالى على عبده، فهما أساس وجود هذا العبد، وقد يكونان السَّبب في رحمة الله تعالى له أو السَّبب في نقمته عليه، فيجب على كل شخص أن يبرّ الأب والأم وأن يحسن مصاحبتهما بالمعروف، وأن لا يغضبهما وأن يوقرهما ويحترمهما لما قاما به من أجله وما قدّماه له وبذلا من جهود ليصبح سعيدا في حياته، وامتثالا لما جاء من نصوص قرآنية وأحاديث شريفة تؤكّد على ذلك، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾[2]، فنفهم من هذه الآية المباركة أنّ طاعة الأبوين والإحسان إليهما شيء فُرض على الفرد بعد عبادة الله عزَّ وجل، ولا يسمح لأي شخص مهما حدث بينه وبين أبويه أن يضجر ممَّا يأمرانه به أو ممَّا يُريدان أن يقوم به من فعل يخالف رغبة هذا الفرد، وأن يعاملهما بكلِّ احترام ومحبة وحنان، ولا يعصيهما في كلّ شيء إلَّا إذا كان الأمر في طاعتهما يؤدِّي إلى معصية الله تعالى وغضبه، فروي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (فحقّ الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إِلَّا في معصية الله سبحانه)[3].
فبرّ الوالدين من أحب الأعمال ومن أحب الفرائض إلى الله سبحانه وتعالى التي فُرضت على الفرد، فروي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال في جوابه لما سأله ابن مسعود عن أحب الأعمال إلى الله تعالى: (الصَّلَاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: برّ الوالدين)[4].
فإن هذه الخصلة أو الميزة إذا توفَّرت بالفرد فإنَّها من أكرم طباعه، والدليل على ذلك ما وروي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) قوله: (برّ الوالدين من أكرم الطّباع)[5].
وإنَّ برّ الوالدين أمر متحتّم على الفرد مهما كانا والدينه، أي: إنهما إن كانا من الناس المُطيعين لله تعالى ولرسوله ولآل بيته الأطهار (عليه وعليهم الصَّلَاة والسَّلَام)، أو كانا فاجرين، وهذا ما يؤكّده الحديث الوارد عن أبي عبد الله جعفر بن مُحَمَّد الصَّادِق (عليهما السَّلَام)، إذ قال: (... برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين)[6].
وأيضا إنَّ مَن برَّ والديه وشكر لهم تربيتهم له ونفقتهم وتعبهم عليه، فإنَّه قد تحقَّق عن طريق ذلك شكره لله عزَّ وجلّ، فيروى عن الإمام الرّضا (عليه السَّلَام): (إِنَّ الله عزّ وجلّ . . .أمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله)[7].
وتترتَّب على برّ الوالدين آثار إيجابيَّة تصب في مصلحة الفرد، منها:
1- إنَّ الفرد ينال رضا الله تعالى إن كان بارّا لأبويه، لأن رضاه سبحانه مقرونا مع رضا الوالدين، فروي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: (رضاء الله مع رضاء الوالدين)[8].
2- إنّ البرّ يكون من الأسباب الَّتي تُزِيد في عمر الفرد، فبهذا الخصوص روي عن النَّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): (منْ برّ والديه طُوبى له زَادَ الله في عُمره)[9].
3- إنَّ من خشي الله عزَّ وجل وعمل بما أُمر به من طاعة الأبوين وعدم عقوقهما فهذا سيناله في المستقبل عندما يكبر، إذ سينال البرّ من أولاده ويكونون له مطيعين غير عاقّين، روي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (برُّوا آباءكم يبرّكم أبناؤُكم)[10]، فهذا البرّ الذي يناله الفرد من أبنائه كان نتيجة لما قام به عمل في برّ والديه، وبالإضافة إلى ذلك أن الولد إن كان بارّا لأبويه فأصبح سببا في إصلاح المجتمع ورفده بجيلٍ صالح بار لأبويه، وهذا ما روي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): (البِرُّ عملٌ مُصلحٌ)[11].
4- إنَّ البرّ تكون فيه المثوبة التي يحصل عليها الفرد أسرع بصورة عاجلة أكثر من غيرها وينال ثمرتها في حياته وفي الآخرة، فروي عن الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (البرُّ أَعْجل شَيء مثوبَة)[12].
5- وإنّ من الآثار الإيجابية الأخرى المترتّبة على البرّ، أنَّه يخفّف سكرات الموت قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلَام): (من أحب أن يخفف الله عنه سكرات الموت فليكن بقرابته وصولاً، وبوالديه بارّا)[13]، ويكون بعيدا كلّ البعد عن الفقر، فقال (عليه السَّلَام) أيضا تتمة للحديث المتقدم الذكر: (ولم يصبه في حياته فقر أبدا)[14].
فالحديث عن البرّ بالوالدين حديث طويل ولا نستطيع أن نُحيط به بهذه السّطور القليلة، ولكن هذا شيء مُختَصَر، وأن الحمدُ لله ربّ العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق والمُرسلين أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين، واللعن الدَّائم على أعدائهم ومبغضيهم إلى قيام يوم الدِّين.
الهوامش:
[1] ميزان الحكمة، لمُحمَّد الرِّيشهري: 4/367.
[2] سورة الاسراء، الآية: (23).
[3] ميزان الحكمة، لمُحمَّد الرِّيشهري: 4/3678.
[4] المصدر نفسه: 4/3674.
[5] نهج السَّعادة في مستدرك نهج البلاغة، للشِّيخ المحمودي: 4/326.
[6] مشكاة الأنوار في غُرر الأخبار، لعليّ الطّبرسي: 280.
[7] ميزان الحكمة، لمُحمَّد الرّيشهري: 4/3674.
[8] مشكاة الأنوار في غُرر الأخبار، لعليّ الطّبرسي: 282.
[9] ميزان الحكمة، لمُحمَّد الرّيشهري: 4/3674.
[10] مستدرك الوسائل، للطّبرسي: 15/178.
[11] غُرر الحكم ودُرر الكلِم لعبد الواحد الآمدي التّميمي: 102.
[12] عيون الحكم والمواعظ لعليّ بن مُحمَّد الليثي الواسطي: 46.
[13] مشكاة الأنوار في غُرر الأخبار، لعليّ الطّبرسي: 281.
[14] المصدر نفسه.