خُطَى الخزاعي
شاء الله تعالى أن تكون رحمته واسعة على وفق مقياسه متناسبة وشأنه، وأن تكون متنوعة الفيض متعددة الصور مستمرة التَنزُّل، تساير الخلق في العوالم المختلفة حتى يوم القيامة، وكأنَّ الله تعالى يجرُّ - بدوام انزال صور رحمته- خلقه إلى النجاة جرًّا.
والشفاعة صورة من صور الرحمة الإلهية، ومعناها:(( كَلَامُ الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ فِي حَاجَةٍ يسأَلُها لِغَيْرِهِ، وشَفَعَ إِليه: فِي مَعْنَى طَلَبَ إِليه، والشَّافِعُ: الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ يَتَشَفَّعُ بِهِ إِلى الْمَطْلُوبِ، يُقَالُ: تَشَفَّعْتُ بِفُلَانٍ إِلى فُلَانٍ فَشَفّعَني فِيهِ، وَاسْمُ الطَّالِبِ شَفِيعٌ))([1]).
وقد أثبت القرآن الكريم أصل الشفاعة أولًا وأنَّ حقَّ الشفاعة لخصوص أُناس بعينهم ثانيًا، عبَّر عنهم بالمأذون لهم، المرضيّين قولًا، شهداء الحق... فقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (طه: 109)، وقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ:23)، {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف:86).
فالشفاعة من جهة المشفوع له مزيد عناية إلهية في درأ عذاب عنه أو رفع درجة له، ومن جهة الشافع اعتناء إلهي كذلك، إذ بها يُبرز الله تعالى عمليًّا شأن الصفوة من عباده على مسمع ومرأى من جميع الخلائق رافعًا إياهم إلى حيث منازلهم الواقعية ومراتبهم الحقّة، فينطوي في تنصيب الربِّ للصفوة المنتخبَة على منصة الشفاعة في عرصة القيامة شيءٌ من تسلية لهم عمَّا لحق بهم من تقليل شأنٍ في عالم الدنيا، وحطٍّ دون المقام.
وللشفاعة مراتب ومصاديق متنوعة ومتفرعة عن أصل، فالقرآن والولد الصالح والعمل الصالح... الخ من عنوانات قد ثبت لها كذلك هذا الحق؛ ولكنه حق مشروط، ومحور الكلام هنا خصوص شفاعة أولياء الله تعالى للناس بوصفها أصل الشفاعات وشرطها، وللذوات الشافعة تراتب كذلك في التشفع على حسب مقاماتهم الواقعية، ولمَّا كان رسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) أفضل خلق الله تعالى مطلقًا([2])؛ استأثروا مستأهلين بالرتبة الأولى في سلم الشفاعة والمؤثرة في قبول سائر رتبها، وتطبيقًا على ما مرَّ نقول أنَّ القرآن الكريم مثلًا شافع بالخبر الصحيح؛ ولكن شفاعته مشروطة في المشفوع له بمودة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) المُصرَّح بها فيه، فستتحقق شفاعته لكل من تدبَّر حقائقه وصدَّق اعتقاده وعمله مقاصد آياته التي ما فتئت تشير إليهم (صلوات الله عليهم)، ولمن عدى ذلك ستنتفي شفاعة القرآن في حقه حتى وان تعهده قراءةً وحفظًا؛ متجمِّلًا بحروفه ونغمه بعيدًا عن مراميه ومقاصده؛ بل لا يمكن افتراض شفاعة القرآن في حقه، لأنّه بافتراقه عن أهل البيت (عليهم السلام) قد كشف بالضمن افتراقًا عن القرآن من أصل، وافتراض شفاعة القرآن في مثل هكذا موارد ستؤدي إلى تكذيب ما تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين (وأنَّهما لن يفترقا...)([3])، فشفاعة القرآن الكريم طولية في شفاعة محمد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) وهكذا في كل شافع من غيرهم.
وللزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) نصيب وافر في الشفاعة الكبرى، متناسب طردًا ومقامها الواقعي عند الله تعالى، وعظيم تضحيتها في سبيل دين الله تعالى، وممَّا جاء في أخبار شفاعتها يوم القيامة أنَّ الربَّ تعالى يسألها عن حاجتها في ذلك اليوم الشديد فتطلب الشفاعة: ((يا حبيبتي وابنة حبيبي، سليني تعطي واشفعي تشفعي، فوعزتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم، فتقول: الهي وسيدي ذريتي وشيعتي، وشيعة ذريتي ومحبيَّ ومحبي ذريتي، فإذا النداء من قبل الله جلَّ جلاله: أين ذرية فاطمة وشيعتها ومحبوها ومحبوا ذريتها، فيقبلون وقد أحاط بهم الرحمة، فتقدِمهم فاطمة (عليها السلام) حتى تدخلهم الجنة))([4])، وأيضًا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسليًّا لها بخبر شفاعتها في يوم القيامة: ((... ثم يقول جبرئيل: يا فاطمة سلي حاجتك: فتقولين يا ربِّ شيعتي، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد غفرت لهم، فتقولين: يا ربِّ شيعة ولدي، فيقول الله: قد غفرت لهم، فتقولين: يا ربِّ شيعة شيعتي، فيقول الله: انطلقي فمن اعتصم بك فهو معك في الجنة، فعند ذلك تود الخلائق أنَّهم كانوا فاطميين، فتسيرين ومعك شيعتك وشيعة ولدك وشيعة أمير المؤمنين آمنة روعاتهم، مستورة عوراتهم، قد ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لا يظمؤون...)([5])، ومن حديث طويل كذلك نختار ((ثم يبعث الله (عزَّ وجلَّ) مَلَكًا لها [أي لفاطمة] لم يبعث إلى أحد قبلها، ولا يبعث إلى أحد بعدها، فيقول: إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول: سليني، فتقول: هو السلام، ومنه السلام، قد أتم عليَّ نعمته، وهنأني كرامته، وأباحني جنته، وفضلني على سائر خلقه، أسأله ولدي وذريتي ومن ودَّهم بعدي، وحفظهم فيَّ، قال: فيوحي الله إلى ذلك الملك من غير أن يزول من مكانه: أخبرها أنِّي قد شفّعتها في ولدها وذريتها ومن ودَّهم فيها، وحفظهم بعدها، فتقول: الحمد لله الذي أذهب عني الحزن، وأقرَّ عيني، فيقرُّ الله بذلك عين محمد (صلى الله عليه وآله)))([6])، فالزهراء الصفوة (صلوات الله عليها) أبت قَبلًا إلَّا أن تجعل صداقها فيض رحمة تطالب به على هيأة شفاعة، فتُعطاها كبرى مستنقذة جموعًا من الخلق في مشهد مهول ليوم عصيب، وجاء في الخبر: ((لمَّا سمعت بأنَّ أباها زوَّجها وجعل الدراهم مهرًا لها، سألت أباها أن يجعل مهرها الشفاعة في عصاة أمته، نزل جبرئيل ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها، فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة تحت الكفن فوضعت، وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي وشفعت في عصاة أمة أبي))([7])، وممّا ورد عندهم:((قال النسفي: سألت فاطمة [عليها السلام] النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أن يكون صداقها شفاعة لأمته يوم القيامة فإذا صارت على الصراط طلبت صداقها))([8])، وكان من آخر ما أوصت به أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): ((إذا دفنتني ادفن معي هذا الكاغد الذي في الحُقَّه... إلى أن قالت (عليها السلام): فرجع جبرئيل، ثم جاء بهذا الكتاب مكتوب فيه: شفاعة أمة محمد صداق فاطمة (عليها السلام)، فإذا كان يوم القيامة أقول: إلهى هذه قبالة شفاعة أمة محمد (صلى الله عليه واله)))([9]).
فالزهراء (صلوات الله عليها) رحمة بصورة أجلى في صور الرحمة الإلهية المفاضة، لم تكتفِ بكل ما قدَّمت من تضحيات في سبيل استنقاذ أُمة أبيها من الضلال في حياتها، فتعود وتواصل الاستنقاذ بشفاعة كبرى، ولا غرو إذ إنَّها بضعة ممَّن أرسل رحمة للعالمين.
اللهم أدركنا بشفاعة فاطمة الكبرى قبل ورود البلايا والرزايا والشدائد في عرصات يوم القيامة، اللهمَّ لا تكتبنا من محبيهم المذنبين الذين يتطهرون من آثامهم بطبق جهنم الأعلى قبل ادراك شفاعتها، اللهم اجعلنا ممّن أول من تلتقط قبل الهوان وترفعنا إلى حيث جوارها في محال النور ومراتب الشيعة الأبرار بمحمد وآله الأطهار.
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور (ت: 711هـ): 8/184، (مادة: شفع).
[2] لم نورد دليل ذلك لبداهته عندنا، ولإشغال مساحة المقال بمحوره.
[3] مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل (ت: 241هـ): 17/169، ح11104.
[4] الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 70.
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 8/54-55.
[6] دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري (الشيعي)(ت: ق4): 154.
[7] شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي (ت: 1411): 10/367.
[8] نزهة المجالس ومنتخب النفائس، عبد الرحمن بن عبد السلام الصفوري (ت: 894هـ):2/174.
[9] مجمع النورين، الشيخ أبو الحسن المرندي: 158-159.