كلامُ الإمام عليّ (عليه السلام) بين الثراء اللغوي والإهمال القسري

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

كلامُ الإمام عليّ (عليه السلام) بين الثراء اللغوي والإهمال القسري

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-02-2020

م.د كريم حمزة حميدي
كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)/ أقسام بابل
إنَّ الصراع الفكري مهما يكن نوعه وغرضه له آثار جانبيَّة كبيرة في الحياة الفكريَّة والثقافيَّة للمجتمع، فكيف إذا كان هذا الصراع ضاربًا في عمق التاريخ، وبمباركة من الحكام والسلاطين؟ ومن يتتبع حركة التأليف في تراثنا الإسلامي يجد أنَّ تأثير السياسة في ذلك الوقت كان كبيرًا على ما أنتجه العلماء العرب من مؤلّفات تمثل الفكر الإسلامي في مختلف العلوم، وهذا النهج الذي اتَّبعه السلاطين في ذلك الوقت لم ينأ عنه حكام اليوم، وليس ببعيد عنَّا سياسة الظلم والتعسف التي اتبعها النظام المقبور في العراق على كل نتاجٍ فكريّ يمثل مدرسة آل البيت (عليهم السلام)، ويبدو أنَّ الظروف التي عاشها العلماء والمفكرون في ذلك الوقت هي نفسها التي عاشها علماء اليوم.
وحديثنا المتقدِّم ما هو إلاّ تمهيدٌ عمّا سأقوله لاحقًا وهو الحديث عن تأثير الحكام في إبداع العلماء ونتاجهم الفكري. ومن الجوانب المهمة في تراثنا الإسلامي والتي يجب أن يُسلّط الضوء عليها هو ذاك الكم الهائل من المؤلّفات اللغوية التي تركها علماؤنا الأفذاذ – رحمهم الله – وكان غرضهم الأساس من ذلك هو حفظ لغة القرآن الكريم، وسلامة اللسان العربي من اللحن؛ وذلك بعد شيوعه (اللحن) بدخول الأعاجم إلى بلادنا العربية. هذا الكم الهائل من المؤلفات اللغوية والنحوية لو تتبَّعنا مصادر الاستشهاد فيها، لوجدنا أنَّها قد اعتمدت القرآن الكريم والقراءات القرآنيَّة أوَّلاً، ثمَّ الشعر العربي ثانيًا، ثمَّ الأحاديث النبويَّة وأقوال العرب وأمثالهم ولغاتهم ثالثًا، ولا يمكن أن نُلقي اللوم عليهم في مسألة تقدّم الشعر على غيره في كثيرٍ من مصنّفاتهم؛ لما يمثله من أهمية في حياة الإنسان العربي آنذاك، فهو من المفاخر التي يعتزُّ بها كل إنسان عربي. فهذا ابنُ عبّاس قد اعتمد الشعر في التفسير اللغوي للقرآن، فهو أولُ من جعل الشعر ميدانًا للاحتجاج اللغوي، وكان ذلك عند إجابته نافع بن الأزرق (ت65ه)، الذي كان يسأله عن كلمات وردت في القرآن الكريم، وهل لها أصلٌ في كلام العرب، فيُجيبُه ابن عباس بأبياتٍ من الشعر([1]).
أمَّا اعتمادهم القرآن الكريم مصدرًا من مصادر الاحتجاج في اللغة، فلا خلافَ بين العلماء في حُجِّيَّته، فهو أفصحُ نصٍّ عربيٍّ، وفصاحتُهُ تتجلَّى في لُغتِهِ، التي (( لا يُدانيها أثرٌ لغويٌّ في العربيَّةِ على الإطلاق))([2]). ولكن عندما نصل إلى الحديث النبوي الشريف نجد أنَّ العلماء قد اختلفوا في حجيَّته اختلافًا كبيرًا، فمنهم من اعتمد عليه ولكن بقلَّة، ومنهم من رفض فكرة أن يكون الحديث النبوي شاهدًا لغويًّا؛ بحجّة أن معظم الأحاديث النبويَّة قد نُقلت بالمعنى([3]). والأمر اللافت هنا أنَّ كلام أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، الذي جُمع فيما بعد بكتاب (نهج البلاغة)، قد أهمله النحويون واللغويون في ذلك الوقت إهمالاً متعمَّدًا على الرغم من إقرارهم أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) هو أوَّل من أرسى قواعد اللغة العربية؛ وذلك حين أمر أبا الأسود الدؤلي – رحمه الله – بأن يأخذ رقعة كانت بيده، كتب فيها بعض الأسس النحوية، طالبًا منه أن ينحو نحوها، وأن يزيد عليها ما وقع إليه. روى أبو بكر الزُّبيدي (ت379ه) عن المبرّد (ت285هـ) قوله: "سُئل أبو الأسود الدؤليّ عَمَّن فتح له الطريق إلى الوضع في النَّحو، وأرْشَده إليه، فقال: تلقيتُه من علي بن أبي طالب رحمه الله. وفي حديثٍ آخر قال: ألقى إليّ عليٌّ أصولًا احتذيتُ عليها"([4]).  
وربَّما يشكلُ أحدهم بأنَّ إهمال النحويين القدماء لكلام الإمام (عليه السلام) هو امتداد لعدم عنايتهم بالحديث الشريف، ولنا أن نجيبه بأنَّ الأسباب التي أدَّت إلى عدم اهتمام العلماء بالحديث لا يمكن أن تُقاس على كلام الإمام علي (عليه السلام)، فالحديث النبوي يختلف عن الخطبة، أو الكتاب المُرسل، أو الرسالة، فهذه الأشياء التي وردت عن الإمام لا يمكن نقلها بالمعنى بخلاف الحديث القصير في حجمه ومضمونه، فضلاً عن أن خطب الإمام (عليه السلام) قد جاءت مُحكمة متراصَّة ذات صياغة متناسقة، وموضوع تاريخي ثابت، وهناك دلائل كثيرة تؤكِّد صحة نسبة الكلام إليه (عليه السلام)، منها تلك الحوادث التاريخيَّة التي كان يتحدث عنها الإمام، والتي كانت واقعة حينها، وكذلك كثرة المصادر التاريخية التي نقلت خطب الإمام، وقد جمعها السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده)، وغيرها من الأدلَّة الناصعة، وللاطلاع على مزيد من هذه الأدلَّة يُراجع كتاب (موسوعة الغدير) للعلّامة الأميني، وكذلك كتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد المعتزلي. 
وكلُّ ما تقدَّم يؤكّد بالدليل القاطع أنَّ كلام الإمام علي (عليه السلام) كان مُتداولاً بين عامَّة الناس، بل عند العلماء بخاصّة. إذًا ما السر وراء إهمال هذا الكم من الموروث اللغوي الفصيح من قبل علماء النحو واللغة عند تقعيد قواعد اللغة العربية؟! إنَّ الحقيقة التي يجب أن لا تُنكر هي سيطرة النزعة الطائفيَّة عند جلّ العلماء آنذاك، والتي جاءت بدعم من السياسات الحاكمة، فضلًا عن خشيتهم من إظهار كلام الإمام (عليه السلام) في ظل الدولتين الأمويَّة والعبَّاسيَّة. كلُّ هذه الأسباب كان للحكام أثرٌ كبيرٌ في إشاعتها والتحريض عليها ومعاقبة كل من يخرج عنها، وهو ما أبعد العلماء عن الإنصاف والموضوعية عند استقراء الكلام العربي، فكان عامل الخوف من عواقب هذه المسألة حاسمًا في تردد العلماء من الاقتراب من كلام الإمام علي (عليه السلام)، وهذا لا يمنع من أنَّ بعض العلماء المتأخرين قد خرج عن هذا العزوف، فعضَّد كتابه من كلامه (عليه السلام)، ولعلَّ أبرزهم الرضي الاستراباذي (ت688هـ) صاحب شرح الكافية.
الهوامش:
([1]) ينظر كتاب مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن العباس، حققها وعلق عليها ووضع فهارسها: د. محمد أحمد الدالي، الجفان والجابي للطباعة والنشر، ط1/ 1993م : 35 - 36، والإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت911هـ)، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ - 1974م: 2/ 67 . 
([2]) العربيَّة، دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، يوهان فك، ترجمه وقدَّم له وعلَّق عليه وصنع فهارسه: الدكتور رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي – مصر/ 1980م: 16 .       
([3]) ينظر في هذه المسألة: الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية، د.محمد ضاري حمادي، الدار العربية للموسوعات – بيروت، ط1/ 2009م: 307، وموقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف، د.خديجة الحديثي، دار الرشيد – بغداد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام – العراق/ 1981م: 13، وأصول التفكير النحوي، د. علي أبو المكارم، دار غريب – القاهرة، ط1/ 2006م: 129 – 138.  
([4]) طبقات النحويين واللغويين، أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبيديّ الأندلسيّ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط2/ 1973م: 21  .       

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3023 Seconds