عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله على أشرف الخلق والمرسلين، مُحَمَّد بن عبد الله وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين، واللعن الدَّائم على أعدائِهم إلى قيام يوم الدِّين، وبعد...
خلق الله تعالى الكون وأودع فيه نظامًا أوكل تطبيقه ومراقبته وصيانته إلى أشخاص معيَّنين، عدَّهم منذ الخلق الأوَّل إعدادًا لأن يكونوا مرشدين للخلق على السُبلِ السليمة الموصلة إلى الله تعالى، واختيارهم من لدن الحقِّ سبحانه كان على وفق مؤهلاتٍ أبدوها في اختبارات تعرَّض لها جميع الخلق، ولمَّا حصلوا على أعلى المستويات في تلك الاختبارات اجتباهم الله تعالى؛ لأن يكونوا دعاةً له في ترتيب زمني على وفق ما تقتضيه حكمته تعالى، وقد أشار أهل البيت (عليهم السلام) إلى بعض الاختبارات التي تعرَّضت لها الخليقة في العوالم السَّابقة، وكيف كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) السهم الأوفر في النجاح بها ممَّا جعله سيُّد البشر، وممَّا ورد الإمام الصَّادق (عليه السلام) في ذلك قوله: ((إنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله): بِأَيِّ شَيْءٍ سَبَقْتَ الأَنْبِيَاءَ وأَنْتَ بُعِثْتَ آخِرَهُمْ وخَاتَمَهُمْ، قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِرَبِّي، وأَوَّلَ مَنْ أَجَابَ حِينَ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ نَبِيٍّ قَالَ: بَلَى، فَسَبَقْتُهُمْ بِالإِقْرَارِ بِاللَّه))([1])، وعنه (عليه السلام) أيضًا: ((كان محمد (عليه وآله السلام) أوَّل من قال بلى))([2]) .
وعلى وفق هذه الاختبارات اختار الله تعالى أنبياءه وأولياءه، ثمَّ أودع فيهم ما يؤهلهم في مسيرتهم الإصلاحية لقيادة البشر، وهيَّأ لهم السُّبل التي تتناسب مع مكانتهم، فاختار لهم أصلابًا طاهرة وأرحامًا مطهرة، وجعلهم يتناقلون عبر سلسلةٍ من الطهارة بعيدًا عن كلِّ رجسٍ أو خبث، وممَّن حفَّت العناية الإلهيَّة به على وفق المؤهلات التي نالها في العوالم السَّابقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهيَّأ الله تعالى له أباء طاهرين وأُمهاتٍ عفيفاتٍ لم يقربن السوء، ثمَّ اختار له ولادةً بكيفيَّةٍ لم يسبق لها مثيل ولم تتكرَّر لمن بعده، فضلًا عمَّا صاحب ولادته من كراماتٍ لفتت كلَّ الأنظار، بحيث صار مولده علامةً بارزةً تدلُّ بيقينٍ تام على أنَّ المولود له شأنٌ عظيمٌ، وسنسوق الرواية التي ذكرت مولده (صلوات الله عليه)، بما ذكره سعيد بن جبير بقوله: ((قال يزيد بن قعنب: كنت جالسًا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزَّى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت: ربِّ إنِّي مؤمنةٌ بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدقةٌ بكلام جدِّي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وإنَّه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لمَّا يسَّرت عليَّ ولادتي . قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك أمر من أمر الله (عزَّ وجلَّ)، ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم قالت: إنِّي فضلت على من تقدمني من النساء؛ لأنَّ آسية بنت مزاحم عبدت الله (عزَّ وجلَّ) سرًّا في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلَّا اضطرارًا، وإنَّ مريم بنت عمران هزَّت النخلة اليابسة بيدها حتَّى أكلت منها رطبًا جنيًّا، وإنِّي دخلت بيت الله الحرام، فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلمَّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سمِّيه عليًّا، فهو عليٌ، والله العلي الأعلى يقول: إنِّي شققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدِّسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه))([3]) .
فالله تعالى قد هيَّأ لأمير المؤمنين (عليه السلام) أبًا صالحًا وأمًّا مؤمنة تعرف جيِّدًا مشوارها ومهمَّتها وعظم حملها فقالت: ((ربِّ إنِّي مؤمنةٌ بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدقةٌ بكلام جدِّي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وإنَّه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لمَّا يسَّرت عليَّ ولادتي))، ولم تأتِ للبيت اعتباطًا من دون وعي بما تفعل؛ بل كانت على بيِّنةٍ من ربِّها تعرف جيِّدًا المسار الذي خطَّه الله تعالى لها ولجنينها، وعندما دارت حول الكعبة انشقَّ لها الجدار ولم ينفتح لها الباب؛ ليكون في ذلك علامةً تهزُّ العقول نحو هذه الولادة الميمونة، وبعد ثلاثة أيّضام تخرج فاطمة بنت أسد (عليها السلام)؛ وهي تفتخر على سائر من سبقها من النِّساء بما منحها الله من التشريف؛ إذ هيَّأ الله تعالى لها أشرف مكانٍ؛ ليكون محلًّا لولادتها بخلاف آسيا بنت مزاحم (عليها السلام) التي عبدت الله تعالى في مكان لا تجوز فيها العبادة إلَّا اضطرارًا، ومريم بنت عمران (عليها السلام) التي أُمرت أن تهزَّ الجذع حتَّى يتساقط عليها الرُّطب، وأمَّا أمُّ الأمير فكرَّمها الله تعالى بطعامٍ من الجنَّة، ثمَّ الهاتف الذي هتف إليها معرِّفًا بوليدها ومنزلته، وهذا كُلُّه من لُطف الله تعالى على البشر؛ ليعرفوا عن بيِّنةٍ بمن يقتدون ومع من يسيرون، وبذلك تكون ولادته (عليه السلام) نبأً جديدًا للكعبة ومن حولها وللإنسانيَّة جمعاء بأنَّ فتحًا قريبًا سيكون على يد هذا المولود الذي أعدَّه الله تعالى بعنايةٍ فائقة؛ ليكون ظهيرًا لخاتم الأنبياء والدِّيانات، وفي هذا المعنى يقول العقاد: ((ولد علي في داخل الكعبة، وكرَّم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنَّما كان ميلاده ثمة إيذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها، وكاد علي أن يولد مسلما؛ بل لقد ولد مسلما على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح))([4]) .
وقد أشار أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الحالة التي جاء بها إلى الدُّنيا فقال: ((فَإِنِّي وَلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الاِيمَانِ))([5])، وقد قيل في معنى الفطرة أنَّها فطرةُ ((كلِّ إِنْسَانٍ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بأَن اللَّهَ ربُّ كلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ))([6])؛ ولكنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يُفسِّرها بمعنى آخر في نهجه الشريف فيقول: ((وَكَلِمَةُ الاِخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ))([7]) .
فالفطرة في مفهوم أمير المؤمنين (عليه السلام) هي التوحيد بأنَّ الله تعالى واحدٌ لا شريك له، وهكذا يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) مشروعًا إلهيَّا مجتبى من لدنه تعالى؛ لأن يكون سبيلًا إلى الله تعالى ودليلًا على عبادته، وبذلك لزم أن يكون له إعدادًا خاصًّا يتلاءم مع ما عليه من منزلة. السلام عليك يا أمير المؤمنين ما بقيت وبقي الليل والنَّهار ورحمة الله وبركاته...
الهوامش:
([1]) الكافي: 1/441 .
([2]) بحار الأنوار: 15/17 .
([3]) الأمالي، الشيخ الصدوق: 194 – 195 ، علل الشرائع: 1/135 – 136 ، معاني الأخبار: 62 – 63 .
([4]) عبقرية علي (عليه السلام): 43 .
([5]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 92 .
([6]) لسان العرب: 5/57 .
([7]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 163 .