خُطَى الخُزَاعي
ارتقت مدارج العُلا فاستقرت في سنام ذُراها شرفًا وعقلًا، برزت أنموذجًا عزَّ؛ بل عدم نضيره في ذلك المناخ القبلي، والبيئة الجاهلة التي كانت ترزح تحت وطأة الضلال والخطيئة، فعرفت في تلك البيئة بالطاهرة([1])، واشتهرت بالحكمة ورجاحة العقل والبصيرة، ومن تلك الشخصية المتفردة ذات المؤهلات النادرة، نستشف حكمة الله تعالى في إعداد ذوات الدائرة الساندة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والمعتمد عليها من لدنه في تشييد دعامة الإسلام الأولى وتثبيت أساسه، فنجد أنَّ من آزر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته ضمن الدائرة الأضيق للنصرة، أناس أنقياء نجباء -على اختلاف مراتبهم- إذ لم يسجل عليهم التاريخ (حاشاهم) مثلبة أو منقصة في شأن من الشؤون، كأبي طالب (عليه السلام)، ومورد كلامنا السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام)، وأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) التالي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرتبة والكمالات، فشاء الله تعالى في بناء الإسلام انتخاب أيادٍ بيضاء لنفوس تفيض فضيلة وشرفًا، فكان دور خديجة (سلام الله عليها) فضلًا عن دعم الرسالة معنويًا، أنَّها سخرت أموالها الطائلة الخالية من الشبهات -إذ يذكر أنَّها (عليها السَّلَام) لم تُرابِ قط في الوقت الذي كان فيه الربا رائجًا ومتداولًا- في خدمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالته، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة مستمرئًا ذلك المال، حتى قال (صلَّى الله عليه وآله) شاكرًا حسن بذلها: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (عليها السَّلَام)([2])، ويشكرها الله تعالى بأن يخصها بسلام وعوض خاص، منزلًا ورتبةً؛ إذ يروى أنَّه (أتى جبريل النبي (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، فقال: أقرئ خديجة من الله ومني السلام، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)([3])، وأيضًا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (أفضل نساء أهل الجنة أربع خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)([4])، فكانت سلام الله عليها معطاءة في كل شيء، مخلصة فيما وهبت، أكرمها الرسول (صلى الله عليه وآله) في حياتها وبعد مماتها، فكان كثيرًا ما يذكرها ويشيد بشخصيتها التي لم تتكرر في أزواجه من بعدها، الامر الذي جعل من بعضهن يغرنَ منها ويحسدْنَها؛ بل ويذكرنَها بقبيح القول، فيرد النبي في كل مرة بردٍّ يفضح فيه عوار المنتقصة، ويضعها في حجمها الذي هو أدون بكثير؛ بل لا شيء قياسًا بمقام خديجة (سلام الله عليها)، وأيضًا كانت بعد ذلك محل تكريم ومورد فخار على ألسنة الذرية الطاهرة من أبنائها، يتغنون بعفتها وفضلها على مسمع ومرأى من أعدائهم، فيحجوهم بطيب أصلهم، وكريم منبتهم، وقديم فضلهم على المسلمين، ويشعرونهم بافتقارهم إلى مثل ذلك، كما جاء في كلام الحسن المجتبى (صلوات الله وسلامه عليه) بمحضر من معاوية إذ قال: (أيُّها الناس أنا ابن مروة والصفا، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من على الجبال الرواسي علا، أنا ابن من كسى محاسن وجهه الحيا، أنا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، أنا ابن عديمات العيوب، أنا ابن نقيات الجيوب، أنا ابن أزكى الورى طرًا، وكفاني بهذا فخرا)([5])، ومحاججة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) القوم في ساحة كربلاء: (قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ جدتي خديجة بنت خويلد؟)([6])، وفي ندبة مولانا صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) نقول مأتمرين بقولهم: (أين ابنُ النبيِّ المصطفى؟ وابن عليٍّ المرتضى، وابنُ خديجةَ الغراء، وابنُ فاطمة الكبرى)([7])، عرفانًا منهم (سلام الله عليهم) بفضل تلك الشخصية المتميزة من جهة، ومن جهة أخرى تأديب المسلمين بأدب الشكر والامتنان لمن كان له يد الفضل، والسبق في نصرة هذا الدين، والكون من أسباب وصوله إليهم.
فسلام الله عليها يوم ولدت موحِّدة طاهرة، ويوم بذلت مالها ناصرةً مؤازرة، ويوم ماتت فجُهلَ قدرُها، وعُفِّي عن فضائلها حسدًا وبغضًا، ويوم تُبعَث قرينةً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ تساق غيرها إلى النار ورحمة الله وبركاته...
الهوامش:
[1])) اسد الغابة، ابن الأثير( المتوفى 360ه): 7/89.
[2])) ينظر: الأمالي، الشيخ الطوسي (المتوفى 460): 468
[3])) السنن الكبرى، النسائي (المتوفى: 303هـ): 7/389 .
[4])) الخصال، الشيخ الصدوق( المتوفى: 381ه): 206
[5])) وفيات الأئمة، من علماء البحرين والقطيف: 107
[6])) الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي: 60.
[7])) إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس( المتوفى: 664ه): 509.