البَاحِث: سَلَام مكّيّ خضير الطَّائِيّ.
الحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله تعالى على سيِّدنا مُحَمَّدٍ وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين، والغرّ الميامين المنتجبين، واللعن الدَّائِم على اعدائِهم إلى قيامِ يوم الدِّين...
قال الإمام جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق (عليهما السَّلَام) لابنه الإمام موسى الكاظم (عليه السَّلَام): (يا بني، اقبل وصيتي واحفظ مقالتي، فإنّك إن حفظتها تعش سعيدًا وتمت حميدًا، يا بني، إنّه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومن لم يرضَ بما قسم الله (عزَّ وجلّ) اتهم الله تعالى في قضائه، يا بني، إنّه من قنع بما قسم الله له استغنى ومن استصغر زلَّة نفسه استعظم زلَّة غيره، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلَّة نفسه...[1].
فمن طالع وصية الإمام جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق (عليهما السَّلَام) لابنه الإمام موسى الكاظم (عليه السَّلَام)، يجدها قد حوت كمًّا هائلًا من الدّروس والعبر والمواعظ الأخلاقية والتربوية، فسنتطرق في هذا المقال إلى بعض هذه الدروس والمواعظ الأخلاقية في هذا المقطع المذكور أعلاه من الوصيَّة.
فإن الوصية في الدين الإسلامي لها أبعاد وأهمية كبيرة، وإنَّ الوصية حق واجب على كل مسلم، ويستحب أن يوصي الرجل لقرابته ممن يرث شيئًا من ماله قل أم كثر، ومن أوصى بماله أو ببعضه في سبيل الله من حج أو عتق أو صدقة أو ما كان من أبواب الخير فإن الوصية جائزة لا يحل تبديلها[2]، لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[3].
فأوصى الإمام جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق (عليهما السَّلَام) ابنه الإمام موسى بن جَعْفَر الكاظم (عليهما السَّلَام) فقال له: (يا بني، اقبل وصيتي واحفظ مقالتي، فإنّك إن حفظتها تعش سعيدًا وتمت حميدًا...).
فالإمام (عليه السَّلَام) في هذا المقطع الأول من الوصيَّة يوصي ولده الإمام الكاظم (عليه السَّلَام) أن يقبل وصيته ويحفظ كلامه وقوله، وما هذا إلَّا درس بالغ الأهمية لما فيه من مواعظ تربوية وأخلاقية، يقدّمه الإمام (عليه السَّلَام) للمؤمنين عن طريق هذه الوصية لابنه الإمام الكاظم (عليه السَّلَام) قبل شهادته (عليه السَّلَام)، وذلك لما في الوصية من أثرٍ بالغ الأهمية في تربية النّفس الإنسانيَّة لمن تمسَّك بها وطبّقها على وفق الشريعة الغرَّاء.
فيسترسل الإمام (عليه السَّلَام) في الوصية، فيقول: (يا بني، إنّه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومن لم يرضَ بما قسم الله (عزَّ وجلّ) اتهم الله تعالى في قضائه...).
ففي هذا المقطع من الوصيَّة يبين لنا الإمام (عليه السَّلَام) درسًا تربويًا وموعظة أخلاقية لها الأثر البالغ في تربية النفس، وهذا الدرس هو: (القناعة)، فيقول (عليه السَّلَام): (يا بني، إنّه من قنع بما قسم الله له استغنى)، أي: إنَّ من قنع بما قسم الله تعالى له من الرزق والعافية والصحة وبكلّ ما أنعم الله تعالى عليه، فهذا قد أغناه الله تعالى عن جميع ما يلهيه عن ذكر الله تعالى وطاعته وأصبح غنيًّا عن جميع ما يفسد دينه ويؤدي به إلى الهلاك من زخارف الدّنيا الزَّائلة.
فهذا عكس من لم تكن له قناعة بما أعطاه الله تعالى ممَّا تقدم ذكره من خيرات، ومدّ عينه إلى ما في أيدي الآخرين من الناس، فهذا يكون مشغولًا بالتفكير في كيفية الحصول على ما حصل عليه أقرانه من الناس حتى يموت وهو لم يقنع بما لديه، فهذا وصفه الإمام (عليه السَّلَام) أنَّه مات فقيرًا، وكذلك من لم يرضَ بقسمته التي قسمها له الله تعالى، فما هذا إلَّا ضعيف الإيمان وقد اتّهم الله تعالى بأنَّه غير عادلٍ.
ومن الدّروس والعبر الأخرى التي حوتها الوصيَّة المباركة، هي: عدم الاستهانة أو الاستصغار بالزَّلة والذَّنب، فقال الإمام (عليه السَّلَام): (ومن استصغر زلَّة نفسه استعظم زلَّة غيره، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلَّة نفسه).
ومنها: عدم الكشف عن عورات الآخرين وإفشاء أسرارهم، وهذا ما نفهمه واضحًا جليًّا في هذا المقطع من وصيَّة الإمام الصَّادِق (عليه السَّلَام) فيقول: (يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات نفسه)، وهذا من أهم الدروس والعبر والمواعظ الأخلاقيَّة، وهذا إن دلَّ على شيء إنّما يدل أنّ الأولى بالإنسان أن لا ينقب عن عيوب الناس، ويكشف أسرارهم، فلا يحق أو يجوز للفرد الكشف والتّحري والتتبع لعورات الآخرين وعيوبهم وفضحها، فلا يزكي الأنفس إلَّا الله تعالى وحده، وجميعنا معرض للخطأ وخير الخطَّائين التّوابين، لأن كشف العيوب يؤدي إلى فساد المجتمع، ومثلًا: قد يعرض الأسرة إلى الضياع والشتات أو قد يؤدي إلى قطع الرزق أو إزهاق نفس أو تشويه سمعة أو غير ذلك[4].
فمن رأى هفوة أو زلَّة أو عيب في أخيه عليه أن لا يفشي هذا العيب ويكشف ستره، فمن عمل عكس ما تقدم من عدم كشف السّتر، لا بد من أن ينكشف ستره يومًا ما.
والحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّد وآلِه الطَّيِّبين الطَّاهِرِين...
الهوامش:
[1] بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي: 75/ 201-202.
[2] فقه الرِّضا (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، عليّ بن بابويه القُمّيّ: 298.
[3] سورة البقرة: 181.
[4] يُنظر: التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية: 2/271.