(هل أتى)، سعي ومثوبة

مقالات وبحوث

(هل أتى)، سعي ومثوبة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-08-2020

خُطَى الخُزَاعي

بمفاتح من كَلِم مُعجَزٍ تَنساب روحُ العطاءِ الإلهي كما السلسبيل فُرُشًا من استبرق وأثوابًا من حرير، أرائكًا وقطوفًا وطهر شراب، نعيمًا باذخًا مُدافًا برونق من لُجين، تكريمًا باقيًا للآل الصفوة (صلوات الله وسلامه عليهم)، إلى حيث المقام العالي الذي تتضاءل عنده حدَّ الاختفاء سائر الرتب والمقامات.
بآيات مباركات من ذكر محفوظ يُتَعاهد آناء الليل وأطراف النهار، رسم الإله بريشة بيانه لوحة رائعة السرد، أنيقة التشكيل، مترفة التفاصيل، قايض فيها خلوص سعي بفيض مجازاة.
سعوا (صلوات الله عليهم) قاصدين بصدق أتم وجه الله تعالى، فأردف سبحانه -متفضلًا- سعيهم الخالص بشكر وافر وعطاء بلا نفاد، موثقًا العمل والجزاء إذ قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ... إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (الإنسان: 5-22).
 وممَّا جاء في شأن نزول هذه الآيات المباركات من تفاسير أهل الخلاف: عن ابن عباس في قول الله (سبحانه وتعالى): {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما عامّة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرًا وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء، فقال علي [عليه السلام]: إن برأ ولداي مما بهما صمت ثلاثة أيام شكرًا، وقالت فاطمة [عليها السلام]: إن برأ ولداي ممَّا بهما صمت لله ثلاثة أيام شكرًا ما لبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي [عليه السلام] إلى شمعون بن جابا الخيبري، وكان يهوديًا فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن جابا، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بثلاثة أصوع من الشعير؟ قال: نعم، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت، قالوا: فقامت فاطمة [عليها السلام] إلى صاع فطحنته واختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصًا، وصلى علي مع النبي (عليه السلام [وآله]) المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، ...
قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئًا إلّا الماء القراح، وهذا ما كان منهم في اليوم الثاني والثالث بإيثارهم على أنفسهم يتيمًا وأسيرًا.
ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح، فلمَّا أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي [عليه السلام] بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا نظر به النبي (عليه السلام [وآله]) قال: يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها النبي (عليه السلام) قال: وا غوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعًا، فهبط جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال: وما أخذنا يا جبرائيل؟  فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ...
وعن قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث: فوثب النبي (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي، ثم قال: أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآيات: {إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} قال: هي عين في دار النبي (عليه السلام) تفجر إلى دور الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنين... ([1]).
ومن مصادرهم أيضًا: ((نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما لما مرض الحسن والحسين [عليهما السلام] نذروا صوم ثلاثة أيام، فاستقرض علي (رضي الله عنه) من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة (رضي الله تعالى عنها) كل يوم صاعًا وخبزت، فآثروا بذلك ثلاث عشايا على أنفسهم مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، ولم يذوقوا إلا الماء وفي وقت الإفطار)) ([2])، ويكفينا في توثيق شأن نزول هذه الآيات في آل البيت واقتصار قصدها عليهم من دون سواهم ما جاء في مصادرنا بالإسناد عن أئمتنا (صلوات الله عليهم) كما في أمالي الشيخ الصدوق (رحمه الله) ([3]) وغيره، وقد ضمَّن كثيرٌ من شعراء الولاء ومن غيرهم هذه الحادثة في أشعارهم متغنين بكرامة آل الله؛ فازدانت نصوصهم بها جمالًا وارتفعت بتضمينها قيمة.
فسلامٌ عليهم ما تلت الحناجر (هل أتى) قرآنًا، وما روتها رواية، وما صدحت بها أدبًا ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1])) ينظر: الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (ت: 427هـ):10/99-102.
[2])) تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (ت: 710هـ): 3/578.
[3])) ينظر: الأمالي، الشيخ الصدوق: 329-333، بإسناده عن ابن عباس، وإسناد آخر عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه (صلوات الله عليهما).

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2787 Seconds