خُطَى الخُزَاعي
بوسم من طراز متفرد، عَلَّم المولى أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) على أهل بيته بعلامات أضاءت على تفوق تلك الذوات وحيازتها على سبق متميز، متقدمة بأشواط على من سواها في دائرة ما دون المعصوم، إذ شرَّفهم كلهم بمقولة سرعان ما دوى صدقها مواقف غير معهودة لغيرهم في كربلاء المعيار، تناسبت وثقل تزكيته (صلوات الله عليه) حين قال: ((اللهم إنِّي لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى، ولا أطهر من أهل بيتي)) ([1])، مقدِّمًا أهل بيته أنموذجًا مثاليًا في الأهل عزَّت نضائره، ليردف تلكم التزكية أكاليل متمايزة على حسب كل فرد منهم، فيجلِّي أكثر على جوهر كل واحد وخصوصية قابليته؛ فيقدِّمهم من جديد بتراتبية وتمايز في مثاليتهم المميزة.
ومن هامات مَن وصفهم (صلوات الله عليه) بأنَّهم الأبر والأزكى والأطهر، السيدة سكينة (سلام الله عليها)، ترجموا لها: أنَّها بنت الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وأمها الرباب بنت امرئ القيس، عُرفت بأنَّها عقيلة قريش، تمتعت بسيرة محمودة، وكانت ذات فضل وفضيلة، وكان لها من الكرم الوافر، والعقل الكامل، والمكارم الزاخرة، والمناقب الفاخرة، والأخلاق الحسنة ما جعلها سيدة نساء عصرها([2])، وقال بعضهم: إنَّ اسمها آمنة، وقيل: أميمة وسكينة لقب عرفت به([3])، لقَّبتها به أمها لسكونها وهدوئها([4])، ترْوِي عَن أهل بَيتهَا، وقد روت عن أبيها، ورَوَى عَنْهَا أهل الْكُوفَة([5])، وقالو: إنَّها روت عن الحسين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: ((حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة)) ([6]).
وإنَّ لهذه السيدة الحسينية الكريمة نصيبًا وافرًا من افتراءات أهل البهتان، بائعي الدين بالدنيا، إذ لم يكتفوا بجريمة أمسهم، حين قتَّلوا أبيها وأخوتها وبني عمومتها بمجزرة مروعة، ثم ساقوها بعد ذلك سبية وهي تعالج آلام اليتم والفقد، إلَّا وجعلوا منها فيما بعد عرضة لزيف أخبارهم وتأليفات أساطيرهم التي كانت تحاكي مخيلات قذرة ونفوس لم تبرأ بعد من داء بغضها لآل الرسالة، فقصدوا بها واحدة ممَّن عناهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بالأبر والأزكى والأطهر، ومن جملة بضاعتهم الكاسدة أنَّهم نسبوا لكريمة الحسين (صلوات الله عليه) أنَّه كان لها ناديًا أدبيًا، تجالس فيه الشعراء وتسمع منهم([7])، وتحكِّم الشعر، وكذلك أنَّهم ادَّعوا زورًا أنَّها تزوجت أكثر من مرة، وعدَّوا لها أزواجًا ومن ضمنهم مصعب ابن الزبير الذي عرف بانحراف خطه عن منهج آل محمد (صلوات الله عليهم) ومناوئته لهم، ولا عجب أن يتصدَّى لصناعة هكذا أخبار الزبيري الزبير بن بكار الذي قيل فيه وفي آبائه أنَّه: استحلف الزبيرَ بن بكار رجلٌ من الطالبيين على شيء بين القبر والمنبر فحلف وبرص، وأبوه بكار قد ظلم الرضا (عليه السلام) في شيء فدعا عليه فسقط في وقت دعائه عليه من قصره فاندقت عنقه، وأبوه عبد الله بن مصعب هو الذي مزق عهد يحيى بن عبد الله بن الحسن بين يدي هارون العباسي وقال: اقتله فإنَّه لا أمان له، وهو الذي استحلفه يحيى بالبراءة وتعجيل العقوبة فحم من وقته ومات بعد ثلاث فانخسف قبره مرات كثيرة، وقد قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في كلام له: إنَّ الزبير بن بكار لم يكن موثوقًا به في النقل، وكان متهمًا فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين (عليه السلام) وغير مأمون، وكان كثيرًا ما ينال من العلويين لدرجة أنَّهم توعدوه بالقتل ففرَّ منهم ([8]).
أمَّا المتلقف لهذه الأخبار روايةً فهو أبو الفرج الأصفهاني الأموي الانتساب، مضمنًا مؤَلَفه (الأغاني) مادة صفراء عن تلك السيدة ضالًا ومضلِّلًا.
وقطعًا أنَّنا لا نعبأ بتلك الموضوعات والمدَّعيات، ويقينًا أنَّها لا تنطلي على أهل المعرفة؛ بل على أهل الولاء من البسطاء، ويكفينا ما قاله لسان الوحي بشأنها كما تقدَّم من تزكية عامة، ثم خاصة إذ أُثر عنه (صلوات الله عليه) أنَّه قال بشأنها: ((أمَّا سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله)) ([9])، ثم أنَّه نقل عنه وصفها بخيرة النسوان عندما جاء (صلوات الله عليه) إلى حرم رسول الله مودِّعًا فهدَّأ من روع سكينة التي كانت تبكيه بحرارة وقال([10]):
((سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهانــــــــــي
لا تحرقي قلبي بدمعك حســــــــــــــــرة *** ما دام مني الروح في جثماني
وإذا قتلت فأنت أولــــــــــى بالـــــــــــذي *** تــــــــأتــــــينه يا خيــــــــــرة النـــسوان))
وقد صرَّح النقل أنَّها كانت متزوجة من عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقد استشهد مع عمه الحسين (صلوات الله عليه) في كربلاء.
ومن ضعف تمحلاتهم أنَّهم قد نسبوا لها شؤونًا تناقض ما أضاء عليه الحسين (صلوات الله عليه) من مميزات في شخصية ابنته، فأين الاستغراق مع الله تعالى وقضاء الوقت مع الشعراء، وكثرة الأزواج؟!، وكيف يتناسب مقام خيرة النساء ومجالسة الرجال الأجانب تستمع إليهم وتحادثهم؟! وبالأمس كانت تأنف وهي في قمة وجعها أن يتطلَّع لموكب السبى ناظر، حين طلبت من سهل بن سعد أن يتدخل في تقديم الرأس الشريف أمامهم عسى أن ينشغل الناس عن النظر إليهم، فهم حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهي تدرك من تكون، وتعلم حجم مسؤوليتها تجاه ذلك ([11]).
فكأنَّه (صلوات الله عليه) يقول تلك الكلمات متوجعًا لما سيلوكه المغرضون من افتراءات بحق ابنته الحبيبة، فيعالجها سلفًا بكلمات تناسب في النقض أكاذيبهم، ويُبرأ بمنطقه الإلهي قدس ساحتها.
توفاها الله تعالى في شهر ربيع الأول من سنة (117ه) ولها من العمر خمس وسبعون سنة، قضتها باستغراق مع الله، لم تنسَ أبيها الحسين (صلوات الله عليه) ورحلة سباها فطال بكاها كما حكى أبوها، ولم تقربها منقصة قط وإن أرجف الوضاعون، فهي برغم الراغم من أبر وأزكى وأطهر أهل بيت.
فسلام عليها قدر ظلامتها الأولى في كربلاء يتصل بسلام آخر ما امتدت فيه ظلامة البهتان ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1])) الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 220.
[2])) مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت: 1405): 5/92-93.
[3])) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي (ت: 597هـ): 7/175.
[4])) العقيلة والفواطم، الحاج حسين الشاكري: 161.
[5])) الثقات، أحمد بن حبان (ت: 354هـ): 4/ 352، تاريخ دمشق، بابن عساكر (ت: 571هـ): 69/ 206.
[6])) المعجم الكبير، الطبراني (ت: 360): 3/132، ح2899.
[7])) نسب هذا الفعل إلى امرأة من آل الزبير تدعى (سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير)، فحال الراوي الزبيري حال من يُقال له: ((رمتني بدائها وانسلت)).
[8])) الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي (ت: 1359): 2/291.
[9])) الكنى والألقاب: 2/465.
[10])) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588): 3/257.
[11])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 45/128.