بقلم: د. ستار قاسم عبد الله - جامعة البصرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
لا شك أن توظيف النصوص الدينية يعد أنجع الوسائط الثرية المؤثرة التي تساعد على إظهار قوة النص ومتانته؛ بسبب طبيعة النص الديني وما يمثله من قدسية، وكذلك اهتمام الناس بهذا النص ومحاولة حفظه وتذكره، من هنا نلحظ الوجود الموضوعي والحضور الفاعل للحديث النبوي الشريف في نص الامام (عليه السلام)؛ لما له من قوة بلاغية تظهر تبعاً للمقامات التي يرد فيها اذ انه مميز بالإيجاز, وكثافة المعنى، وعمق الدلالة، ففي قوله (عليه السلام): (إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك)([1]) قال ابن ابي الحديد (كلامه هنا مأخوذ من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن ادم ليس لك من مالك الا ما اكلت فأفنيت، او لبست فابليت، او تصدقت فابقيت)([2]) فقد اقترب النص في محموله الدلالي من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تركيب فني محكم وجمالية فائقة اثرت المحمول الفكري للنص، وقد تم التناص هنا على وفق آلية الامتصاص اذ قام الامام بتذويب النص النبوي الشريف وإعادة صياغته؛ نظراً لاهمية المحمول الفكري للحديث النبوي الشريف، فهو يؤكد على أهمية البذل في سبيل الله، وفي هذا اشاعة لروح التكافل الاجتماعي وهذا المغزى يغوص عميقاً في الوجود الانساني العام ويتبدى في مخزونات المعاني التي يحتوي عليها مضمون النص النبوي الشريف اذ يتبين من النص عمق إلتزامه بمصلحة الجماعة، وذلك من خلال التأكيد على استلهام الاخلاق الاسلامية.
في مقاربة لنص آخر للامام في الحكمة يقول فيه: (من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة)([3]) والذي يعني به ان من ينفق في سبيل الله شيئاً بسيطاً فان الله سبحانه وتعالى يجزل عليه من العطاء أضعافاً كثيرة مما أنفق ولعل الامام (عليه السلام) اخذ المعنى من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى)([4]) وقد قال الشريف الرضي (هذا القول مجاز لانه صلى الله عليه وآله وسلم اراد باليد العالية يد المعطي وباليد السافلة يد المستعطي ولم يرد على الحقيقة ان هناك عالياً وسافلاً وصاعداً ونازلاً وانما اراد ان المعطي في الرتبة فوق الآخذ؛ لانه المفضل والمحسن والمجمل، وليس هذا في معطي الحق وانما هو في معطي الرفد ومسترفده، وليس المراد انه خيرٌ في الدين بل المراد انه خير في النفع للسائلين وانما كنى عن هاتين الحالتين باليدين؛ لأن الأغلب أن يكون بهما العطاء والبذل وبهما القبض والأخذ)([5])، ونلاحظ هنا ان الامام (عليه السلام) يلتمس المعنى المصيب واللفظ المتخير يقوده في ذلك بصر محكم يميز به المعاني والالفاظ بعضها من بعض.
لاحظنا فيما مر بنا من كلام ان الامام (عليه السلام) يتكئ على مرجعيته الدينية المتمثلة بالحديث النبوي الشريف وقد ظهر من خلال البحث انه (عليه السلام) في خطابه يؤكد على حسن بيانه في صياغة الفاظه وكذلك ابتعاده عن الحوشي الغريب وقد كان خطابه (عليه السلام) قد شكل الميادين الحقيقية للتفكير لدى الانسانية جميعاً فهو يلامس القلب بواقعيته؛ ذلك ان التجربة اللغوية في عالم نهج البلاغة تجربة غنية تتعامل مع اللغة من موقع العالم العارف لا من موقع المتعلم الذي يجهل الفروق الدلالية بين المفردات التي يوظفها في خطابه فقد استثمر الامام الحمولة المعرفية للنص القرآني والحديث النبوي الشريف في سبيل تمرير رسالته الانسانية، وبالوقت نفسه استطاع من خلال ذلك ان يوجه المخاطب نحو فعل انجازي معين من منطلق تسانده المعرفة اللغوية الواسعة والذوق السليم والحس المرهف؛ لذا كان خطابه يحمل مضموناً فكرياً وثقافياً عالياً فـ (اذا كان النص يعيد توزيع اللغة وهو الفضاء الذي تقع فيه عملية توزيعها فان احدى الطرق التي يتم بها هدم اللغة هي مبادلة النصوص او شذرات النصوص التي وجدت او ما زالت توجد حول النص الذي اندرجت فيه اذ ان كل نص بالضرورة هو نص متداخل نص تتداخل في انحائه نصوص اخرى، في مستويات متغيرة واشكال تتعرفها، ولا تتعرفها على الاطلاق)([6])؛وبذلك فان المتن الادبي للامام (عليه السلام) ينفتح على القرآن الكريم وعلى الحديث النبوي الشريف، فالابداع لا يمكن ان يعتمد على المبتكر وانما هو ايضاً (انشاء وجود جديد من اشياء سابقة في الوجود)([7])، ومع ذلك يبقى التناص عملاً ابداعياً وليس إتباعياً ومن ثمّ فهو تعبير عن الذات المنتجة([8]).
الهوامش:
([1]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8/329.
([2]) صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج ط1، دار الفكر بيروت، د.ت، 8/211.
([3]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 13/182.
([4]) السنن الكبرى، النسائي تح: عبد الغفار سليمان البغدادي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1991م: 2/117.
([5]) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 13/ 182.
([6]) تداخل النصوص في الرواية العربية، حسن حمد حماد، الهياة المصرية العامة للكتاب ,1997م: 28.
([7]) ازمة الابداع في الفكر العربي المعاصر، محمد عابد الجابري، مجلة فصول، العدد 3، 1984م:25.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ملامح الخطاب النقدي في شروح نهج البلاغة، للدكتور ستار قاسم عبد الله، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص79 – 82.