بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
ومهما بلغت الحدة في نقده لخلافة أبي بكر ومن بعده خلافة عمر فهي ـ في اعتقادنا ـ لا تخرج عما ذكره التاريخ في شخصيهما، فالاختلاف هنا يكمن في طريقة التناول، فعلي(عليه السلام) قد عبر عن نقده بأسلوب ساخط ممزوج بالألم، وإلا فإن أبا بكر قد قال في مطلع حكمه مستقيلاً عبء الخلافة زاهد فيها «لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي»[1]، وقد تناول الإمام علي(عليه السلام) ذات التعبير في معرض الاستغراب والتعجب من التناقض بين القول والفعل، إذ بينما يظهر أبو بكر الزهد في الخلافة أثناء حياته، يراه علي(عليه السلام) يحرص بالوصية في عقدها لعمر بن الخطاب بعد وفاته معبراً عن ذلك بقوله: «فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها في حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»[2]، لأن المفروض ـ وجهة نظر علي(عليه السلام) ـ فيمن «يستقيل من أمر على ظاهر الحال، يجب أن يكون زاهداً فيه متبرماً منه... ومن عقده لغيره ووصى به إلى سواه فهو على غاية التمسك به»[3].
فإذا كان علي(عليه السلام) ينكر على أبي بكر ذلك، فإنه في ذات الوقت ينتقد شخص المعقود له حين يصفه بالخشونة وعدم الثبات في الأحكام، بحيث أصبح عهده من حيث الفتيا والقضاء لا يلتزم منهجاً معيناً، فقد كان عمر «ما يحكم بالأمر ثم ينقضه، ويفتي بالفتيا ثم يرجع عنها، ويعتذر مما أفتى به»[4] من ذلك انه قضى في توريث «الجد مع الأخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثم خاف من الحكم في هذه المسالة، فقال: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه»[5]، هذا بالإضافة إلى حدة مزاجه وسرعة غضبه، وقد تمثل علي(عليه السلام) كل تلك الصفات في خطبته المسماة (بالشقشقية)[6]، وبغض النظر عما حواه أسلوب الخطبة من حدة، فمن المرجح ان ما ورد فيها من نقد لا يخرج عما قاله التاريخ فيه ووصف به نفسه. فعبد الرحمن بن عوف يقول لابي بكر حين سأله عن عمر «فيه غلظة»[7]. وفي خطبته الأولى بعد توليه الحكم يقول عمر «اللهم اني غليظ فليني لأهل طاعتك... اللهم اني شحيح فسخني في نوائب المعروف، اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين...»[8]، فما قاله علي(عليه السلام) في عمر لا يتعدى ما قاله عمر عن نفسه، فهو ليس سب ولا تعريض، وإنما هو نقد خال من كل ما يسيء. فالغلظة والجفاف وسرعة الغضب من طبع عمر حتى قيل انه «اذا غضب على بعض أهله لم يسكن غضبه حتى يعض يده»[9]، الا أن ذلك لم يكن ليثلم في متانة ايمانه وصدق عزيمته في النصح للإسلام واهله، لذلك فبالرغم من الاختلاف في وجهات النظر بينه وبين علي(عليه السلام)، فلم يكن عمر ليتردد في استشارة علي(عليه السلام)، كما لم يبخل علي(عليه السلام) من اسداء المشورة والنصح بروح ملئوها التسامح والصدق، لأن الغاية بقاء الإسلام قوياً عزيزاً.
لقد حفظت لنا كتب التاريخ والأدب كثيراً من المشاركات القضائية والفقهية[10] التي ساهم علي(عليه السلام) في عهد عمر الذي كان «يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن»[11]، ومن الاقوال المأثورة عن عمر في حق علي(عليه السلام) «لولا علي لهلك عمر»[12].[13].
الهوامش:
[1] الإمامة والسياسة 1/14.
[2] خطب 3، ويستقيلها يطلب الاعفاء منها.
[3] الراوندي: منهاج البراعة 1/125.
[4] ابن أبي الحديد 1/171، 181.
[5] السابق.
[6] راجع خطب 3، فقرة 2.
[7] تاريخ الطبري 3/428، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/29.
[8] العقد الفريد 4/65، ابن أبي الحديد 12/31، وقد أوردها باختلاف.
[9] الزبير بن بكار ـ الموفقيات ص 602.
[10] راجع بعض مشاركات علي(عليه السلام) القضائية في عهد عمر عند: المحب الطبري ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة 3/ 163، 164، 165ـ وسبط ابن الجوزي ـ تذكرة الخواص ص 135 وما بعدها.
[11] ابن عبد البر ـ الاستيعاب بهامش الإصابة 3/39.
[12] المصدر السابق نفسه.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 217 – 219.