بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
لما أصيب عمر بن الخطاب سنة ثلاثة وعشرين وأحس بدنو أجله، حصر اختيار الخليفة من بعده في أحد ستة من الصحابة، هم: عثمان بن عفان الأموي، وعلي بن أبي طالب الهاشميعليه السلام، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وطلحة بن عبيد الله التيمي، والزبير بن العوام الأسدي، وقد فوض إليهم الاتفاق فيما بينهم على احدهم لذلك المنصب الخطير، ويبدو من خلال دراستنا لتاريخ الفترة ان ذلك الاختيار من قبل عمر لم يكن وليد ساعته. فلقد احس عمر بما يدبر في الخفاء أثناء خلافته حين نمى إلى سمعه «أن الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا علياً عليه السلام»[1] وكان قوم يقولون «لوقد مات أمير المؤمنين اقمنا فلاناً، يعنون طلحة بن عبيد الله»[2] وجاء مثل ذلك في رواية عن المغيرة بن شعبة[3]، وبطبيعة الحال، فلقد وقف عمر من ذلك موقف المتشدد لقطع دابر تلك النوايا في خطبته بالمدينة بعد قفوله من اخر حجة له بقوله «انه بلغني ان قائلاً منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرن امرؤ ان يقول: ان بيعة أبي بكر فلتة»[4]، فما حدث في بيعة أبي بكر من استعجال وسرعة لا يرغب عمر ان يتكرر مرة اخرى، مما يعني انه قد كان يفكر جدياً فيمن سيخلفه ، ويبدو ان عمر قد انتقد الستة اللذين عينهم انه كان يميل كل واحد منهم مما يثلم في أهليته للخلافة[5]، ولكن ينتابنا شعور انه كان يميل إلى جانب عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أكثر من ميله إلى الاربعة الباقين فمما يرون في شأن عثمان، عن حذيفة بن اليمان «أنه قال: قال لي عمر: من ترى الناس يؤمِّرون بعدي؟ قال: قلت سموا لها عثمان، قال: فسكت»[6] حتى قيل ان أمر عثمان قد اشتهر وطارت به حداة الابل وعمر ما زال حياً، «روي عن حارثة بن مضروب قال: سمعت الحادي يقول: الا ان الأمير بعده ابن عفان»[7].
كان عمر يميل إلى عثمان، وقد شعر علي بن أبي طالب عليه السلام بذلك الميل، واحس منذ الوهلة الأولى التي قبل فيها ان يكون ضمن رجال الشورى، ان الخلافة ستؤول إلى عثمان، فمما يؤثر عنه في ذلك قوله لبني هاشم «ان اطيع فيكم قومكم فلن يؤمروكم ابداً، وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا، قال له: وما اعلمك، قال: قرن بي عثمان، ثم قال: ان رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلاً، فكونوا من الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فلو كان الاخران معي ما نفعاني»[8]، ولا نعتقد أن عمر حين قسم أصحاب الشورى ذلك التقسيم كان لا يدرك أن الأمر سيؤول إلى عثمان، لداريته بأهمية القرابة والعصبية في تشكيل المواقف عند العرب فَصِلة القرابة التي تربط عبد الرحمن بن عوف بسعد بن أبي وقاص وبعثمان بن عفان، تجعل علياً عليه السلام في الكفة الخاسرة، هذ على افتراض وقوف طلحة والزبير بجانبه، مع ملاحظة ان طلحة وان كان غائباً يوم الشورى فإنه من المستبعد ان يكون في الكفة التي ترجح علياً عليه السلام بسبب معارضة هذا الاخير لبيعة أبي بكر التيمي نفس الفرع القرشي الذي ينتمي إليه طلحة، لذلك تحقق ما كان علي عليه السلام يتوقعه، وبويع لعثمان بعد ان فوض الاختيار لعبد الرحمن بن عوف الذي اخرج نفسه من الشورى كي يصبح الاختيار في يده[9]، ولمعرفة عبد الرحمن بأسلوب علي ومبدئه بالإضافة إلى موقفه الحاسم من خلافة الشيخين، فإنه لم يزو الأمر عنه، إنما اشترط عليه فيما لو بويع له بالخلافة فإن عليه «عهد الله وميثاقه ليعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من قبله»[10]، وقد رفض علي عليه السلام النقطة الثالثة من الشرط، لاعتقاده بأحقية اتباع الشيخين له لا باتباعه سيرة الشيخين، فالنقطة تلك موضوعة في الأساس على ما نعتقد ـ لعلي عليه السلام، لأن عثمان لن يعترض عليها لأنه لم ير فيه منافساً للشيخين، ولم تؤثر عنه أية معارضة لخلافتهما، لذلك فقد تحققت مقولة عمر في علي عليه السلام من كراهة قريش اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم[11]، كما ان قريش ـ حسب تعبير عمر ـ لا تحتمل علياً عليه السلام «ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة»[12]، فالشورى بحسب تخطيط عمر لها، لم تكن رضاً بالنسبة لعلي عليه السلام كما يبدو من قوله «حتى مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم إني أحدهم فيا لله ويا للشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، ولكني أسففت إذ اسفوا، وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ»[13]. فتبرم علي عليه السلام بالشورى وعدم رضاه عنها يبدو واضحاً من خلال تعبيراته الهادرة بالغضب، لما اصاب منزلته من استصغار بقبوله الدخول ضمن تلك الشورى وذلك حين قرنه بستة ليس فيهم من يتمكن من القيام مقامه أو يساويه في منزلته، مع انه يعتقد في قرارته أنه أحق بالأمر من أبي بكر. لقد قبل علي عليه السلام بمحض إرادته أن يدخل في الأمر بدافع المطالبة بحقه، لكن تدخل عامل القرابة في الشورى، وتشبع نفس احدهم بالحقد والضغينة[14]، بالإضافة إلى امور متفق عليها في الخفاء لم يكشف على عليه السلام النقاب عنها [15] كل تلك العوامل أدت إلى افلات الخلافة منه للمرة الثالثة. كما ان الشورى في حد ذاتها قد احدثت شرخاً عميقاً في الصف الإسلامي، حين اوجدت في الساحة السياسية متنافسين على الخلافة لم يكونوا كذلك من قبل، الا ان ترشيح عمر لهم أعطى كل فرد منهم الثقة في نفسه، وجعله ومن ورائه عشيرته، يعتقد أهليته وصلاحيته للمنصب الخطير، مما احال المنافسة بينهم إلى صراع دام كلف المسلمين الكثير «فلم يشتت بين المسلمين، ولا فرق اهواءهم ولا خالف بينهم ـ حسب قول معاوية ـ الا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر... لم يكن رجل منهم الا رجاها لنفسه ورجاها له قومه... ولو ان عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف»[16]. وبرغم الافرازات الخطيرة التي تنبأ بها علي عليه السلام جراء الشورى إلا أنه من أجل وحدة المسلمين بايع طائعاً بعد ان قال في محضر من جماعة الشورى وحشد من المسلمين «لقد علمتم اني احق بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا على نفسي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة»[17]، وعلى أساس بيعته الطوعية تلك يمكننا تتبع فكره أثناء حكم عثمان.[18].
الهوامش:
[1] القسطلاني: ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10/19.
[2] المصدر السابق نفسه.
[3] راجع: العقد الفريد 4/281.
[4] تاريخ الطبري 3/285.
[5] المصدر السابق نفسه.
[6] القاضي عبد الجبار ـ المغني 20/القسم الثاني/30 وقد جاء في انساب الاشراف 2/214 عن حارث قال «حججت مع عمر فسمعت حادي عمر يحدو: ان الامير بعده ابن عفان.
[7] القاضي عبد الجبار ـ المغني 20/ القسم الثاني/30 وقد جاء في انساب الاشراف 2/214 عن حارثة قال «حججت مع عمر فسمعت حادي عمر يحدو: ان الامير بعده ابن عفان».
[8] العقد الفريد 4/276.
[9] السابق 4/277.
[10] العقد الفريد 4/279.
[11] راجع العقد الفريد 4/280، ابن أبي الحديد 12/9.
[12] تاريخ اليعقوبي 2/159.
[13] خطب ـ 3، واسف الرجل: إذا دخل في الأمر الدنيء واصله من اسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه، والضغن: الحقد ومع هن وهن أي مع امور يكنى عنها ولا يصرح بذكرها واكثر ما يستعمل في الشر.
[14] يقول ابن أبي الحديد: ان علياً عليه السلام يعني بالحاقد «طلحة... فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضراً يوم الشورى، فإن صحت فذو الضغن سعد بن أبي وقاص، لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، والضغينة التي عنده على علي عليه السلام من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم وتقلد دماءهم... 1/189، 190.
[15] اعقتد ان الأمور التي لم يكشف عنها علي عليه السلام وكنى عنها ب «هنٍ وهنٍ» هي الاتفاق فيما بين عبد الرحمن وعثمان ان يرجع الأمر إليه فيما بعد كما يروي صاحب العقد الفريد 4/279 «ان علياً عليه السلام قد قال لعبد الرحمن بن عوف: حبوته محاباة، ليس باول يوم تظاهرتم فيه علينا، اما والله ما وليت عثمان الا ليرد الأمر اليك»وقد نشب خلاف بين عبد الرحمن بن عوف وعثمان ادى إلى القطيعة فيما بينهما، وقد ارجع اليعقوبي ذلك الخلاف وتلك القطيعة إلى الأسلوب الذي حاول به عثمان ان يعهد بالخلافة لعبد الرحمن إذ «روي أن عثمان اعتل علة اشتدت به، فدعا حمران بن ابان، وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقراه حمران في الطريق، فأتى عبد الرحمن فاخبره، فقال عبد الرحمن وغضب غضباً شديداً: استعمله علانية ويستعملني سرا» تاريخ اليعقوبي 2/169.
[16] العقد الفريد 4/181.
[17] خطب ـ 73.
[18] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 222 – 227.