بقلم: الدكتور علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
8- النقد:
إن نقد الإمام علي عليه السلام ليس نقداً من أجل النقد ولم يكن ذا حدٍ واحد، أي لم يظهر السلبية ويشير إليها حسب، بل هو ذو حدّين؛ إذ يشخّص الداء، ويصف الدواء، وهكذا تناول عليه السلام أموراً كثيرة وكان صيرفياً لامعاً وطبيباً نطاسياً متمكناً من أدواته، فلا يطلق الكلام على عواهنه، فيقول هذا أسود وهذا أبيض، بل كان يعرف لماذا صار الأبيض أسوداً ولماذا صار الأسود أبيضاً، وكيف يجب أن يتبادلا المواقع. ونقد الإمام عليه السلام ينقسم إلى قسمين كما رأيناه: اجتماعي وأدبي.
ففي النقد الاجتماعي - خاصة - كان عليه السلام يطرح الحلول ولسان حاله يقول
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.
وكعادتنا سنستعين بعينات من نقد الإمام عليه السلام في كلا القسمين، كشواهد على هذه الخصيصة في (النهج).
أ - النقد الاجتماعي
من كلام له عليه السلام فيمن اتخذوا الشيطان ولياً لهم قال:
((اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتخذهم له أشراكاً (أي: أدوات صيد) فباض وفرَّخ في صدورهم، ودب ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيّن لهم الخطل، فِعل من شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه)).
ومن كلام له عليه السلام دعا فيه الزبير للدخول في بيعته قال:
((يزعم أنه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة (أي: الدخيلة) فليأتِ عليها بأمرٍ يُعرَف، وإلا فليدخل فيما خرج منه)).
وقارن بينه عليه السلام وبين خصومه فقال:
((وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نُسيلُ حتى نمطر)).
وقال عليه السلام:
((ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله (جمع راجل) وإن معي لبصيرتي، ما لبَّست (ما أبهمت) على نفسي، ولا لُبِّسَ عليّ. وأيم الله لأفرطنّ لهم حوضاً أنا ماتحه (مستقيه)؛ لا يصدرون عنه (لا يعودون بعد الاستقاء) ولا يعودون إليه)).
وقال عليه السلام للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب، إذ اعترضه الأشعث في بعض كلامه قائلاً:
يا أمير المؤمنين هذا عليك لا لك.
فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً:
((ما يدريك ما عليَّ وما لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين! حائك ابن حائك! منافق ابن كافر! ويلك لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منها مالك ولا حسبك! وإن امرأً دلّ على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحريّ أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد)).
ومن كلام له عليه السلام حلل فيه تحليلاً نقدياً رائعاً مقتل عثمان فقال:
((لو أمرتُ به لكنت قاتلاً، أو نَهيت عنه لكنت ناصراً، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خيرٌ مني، وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة (أي: الاستبداد) وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)).
ومن كلام له عليه السلام يدين موقف قريش منه فيقول:
((مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، كما أنا صاحبهم اليوم، والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا فكانوا كما قال الأول:
أدمت -لعمري- تربك المحض صابحاً
وأكلك بالزبد المقشرة البجـرا
ونحـن وهبنـاك العلاء ولـم تكن
علياً، وحطنا حولك الجرد والسُّمرا
وكان مصقلة بن جبيرة الشيباني قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقهم، فلما طالبه عليه السلام بالمال خان وغدر، وهرب إلى معاوية في الشام، فقال عليه السلام:
((قبّح الله مصقلة! فَعَل فِعل السادة، وفرّ فرار العبيد! أفما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدّق واصفه حتى بكتّه (أي: عنفه) ولو أقام لأخذنا ميسوره، وانتظرنا بحاله وفوره)).
وحين منعه سعيد بن العاص حقه قال عليه السلام:
((إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم تفويقاً، والله لئن بقيت لأنفضنهم نفض اللّحام الوِذام للتربة)).
وفي نقده أهل الشام قال عليه السلام:
((جفاة (أي: غلاظ) طغام (أي: أوغاد)، وعبيد أقزام (أي: أرذال)، جُمعوا من كل أوب، وتلقطوا من كل شوب (أي: خلط)، فمن ينبغي أن يُفَقَّه أو يؤَدَّب، ويُعَلَّم ويُدَرَّب، ويوَلّى عليه، ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوؤا الدار والإيمان.
وبعث عليه السلام برسالة إلى معاوية بن أبي سفيان قال فيها:
((أما بعد: فقد أتتني منك موعظة موصّلة (أي: ملفقة) ورسالة محيَّرة (أي: مزيّنة)، نمّقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، قد دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضلال فاتبعه، فهجر (هذى) لاغطاً وضل خابطا)).
وفي سحرة اليوم الذي ضُرِبَ فيه قال عليه السلام:
((مكتني عيني (أي: غلبني النوم) وأنا جالس، فسنح (أي: مرّ) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقلت:
- يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأوَد واللّدد؟
فقال:
-ادع عليهم
فقلت:
- أبدلني الله بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني))([1]).
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 282 - 286.