بقلم: د. جليل منصور العريض – الجامعة الأولى/ تونس
وبعد:
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن عثمان كان كثيراً ما يستجيب لنصح علي (عليه السلام)، ويستمع لنقده، ويحاول العمل بمشورته، إلا أن وقوعه تحت تأثير مروان ومن شايعه من بين أمية، هو ما يحول بينه وبين ذلك، وقد التفت العباس بن عبد المطلب إلى ضعف شخصية عثمان وتأثير أهله عليه بقوله «ما هذاـ يعني عثمان ـ... من أمره من شيء»[1]، لذلك بدت الهوة سحيقة جداً بين وجهة نظر علي (عليه السلام) ووجهة نظر عثمان، بحيث يستحيل التوفيق بينهما حتى قيل أنه «لا سبيل إلى صلحهما»[2]. فبعد أحداث الحصار ومقتل عثمان والمبايعة لعلي (عليه السلام) بالخلافة، يستعرض في أول خطبة له بالمدينة تاريخ الخلافة في عجالة، ثم يقف عند عثمان، ناعياً عليه تصرفه في أموال المسلمين ووضعه اياها في غير استحقاقها مشبها اياه بالغراب في قوله «سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه، يا ويحه لو قص جناحاه، وقطع راسه لكان خيرا له»[3]، وقص الجناح وقطع الرأس لا يعني التحريض على القتل ـ كما يظن ـ ولكنه يعني ـ كما نعتقد ـ المعالجة الحكيمة لسياسة التصرف في المال، بقطع دابر القيل والقال، والنأي بالنفس عن الشبهات، ووضع الأموال في المواضع التي أرادها الله، دون تمايز في توزيعها، لأن الحاكم في مركزه ذلك لا يمثل عشيرته وقومه، وانما يمثل الأمة بأسرها، مما يحتم عليه ان يسمو بنفسه عن العصبية العشائرية فتتساوى الناس عنده في الحقوق والواجبات، فالقص والقطع في النص ـ كما نفهمها ـ انما يقصد منهما انه كان من المتوجب على عثمان النظر إلى مكانته كراس للمسلمين لا كراس لبني أمية، وهو ما لم يكن عثمان يدرك ابعاده من خلال تامله في مركزه الجديد بعد ان بويع له بأن يكون حاكما فاختلطت عليه الأمور «وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، إلى ان انتكث عليه فتله، واجهز عليه عمله»[4]، إذ يفهم من ذلك ان الذي أودى بحياة عثمان ليس الثوار الذين حصروه، لأن أولئك لم يكونوا سوى افرازات لسياسة مدبرة لم يكن الحاكم المقتول يعي أبعادها، لأن البطانة التي احاطت به قد حجبت عنه الحقيقة وحالت بينه وبين سماع صيحات السخط من حوله. وقد بذل علي (عليه السلام) كل طاقته لإيصال تلك الصيحات إلى سمع الحاكم، ولكن نفسية عثمان لم تكن مهيأة لسماع أية نصيحة، خاصة من علي (عليه السلام)، لما نمته إليه بطانة السوء حوله بأن علياً (عليه السلام) انما يقوم بدور الناصح حسداً ونكاية لإظهار عيوب الحاكم للناس لتثويرهم حتى يتسنى له الوصول إلى السلطة، وما تمثل به عثمان من شعر في احدى خطبه مومئاً لعلي (عليه السلام) فيه دلالة على ذلك الاعتقاد الذي بلغ من عثمان حداً لا يمكن معه ازالته من نفسه: (طويل)
توقد بنار اينما كنت واشتعل فـلـــست تـرى ممــا تعالج شافيا
تشط فيقضي الأمر دونك أهلـه وشيكاً ولا تدعى إذ كنت نائيا[5]
فالتمثيل بالبيتين يدل على موقف عثمان الرافض لكل نصح أو نقد أو استشارة مصدرها علي(عليه السلام) ، اما الخلافة فلن ينالها علي(عليه السلام) وسوف يقضي فيها أهل الحل والعقد، دون ان يكون علي(عليه السلام) طرفاً فيها، ولا حتى في المشاورات التي على اساسها يبايع للحكم.
الهوامش:
[1] الأخبار الموفقيات ص 611، 617.
[2] السابق.
[3] الجاحظ: البيان والتبيين 2/51، العقد الفريد 4/67، وقد ورد في الخطبة الشقشقية ـ خطب 3ـ فقرة 2، من النقد ما هو اشد من ذلك.
[4] خطب ـ3.
[5] الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات ص 603، وقد ذكر البيتين ضمن خطبة لعثمان مشحونة بالسخط والغضب على منتقدي سياسته المالية. «وكأنه يومي فيهما إلى علي (عليه السلام)» بحسب رواية الزبير بن بكار، ثم ان ما دار من جدل بين عثمان وبين عبد الله بن عباس حول فحوى الخطبة بعد فراغ عثمان منها ورجوعه إلى بيته يرجح ان معاني الخطبة كانت موجهة إلى الهاشميين عامة والى علي (عليه السلام) على وجه الخصوص، راجع ذلك الجدل الذي بلغ حد النزاع ـ الزبير بن بكار ـ الأخبار الموفقيات ص 604 وما بعدها.