من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة: الانـْـفـَاق

مقالات وبحوث

من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة: الانـْـفـَاق

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-03-2022

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
ورد هذا اللفظ عشرة مرات في النهج ليدل على معنيين:
المعنى الحقيقي: عكس الكساد أي الرواج ولم يرد في النهج.

المعنى المجازي: إذ جاء الفعل الماضي متصلاً بجماعة الغائبين مرة واحدة،  وذلك في قوله  (عليه السلام): «طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ،  وَطَابَ كَسْبُهُ،  وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ،  وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ،  وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ»[1]..  وفيه مدح لمن أنفق بماله،  ودلالته الزمنية على الماضي.
  وجاء متصلاً بهاء الغائب قال(عليه السلام): « إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُل كَسَبَ مَالاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ،   فَوَرَّثَهُ رَجُلاً فَأنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ،  فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ،  وَدَخَلَ الاْوَّلُ بِهِ النَّارَ. »[2]  فاتصل الفعل بالفاء العاطفة التي تفيد التعقيب وتدلُّ على السرعة،  لتشير الى قصر عمر الانسان، أي كسب المال لرجل معين في غير الطاعة يعقبه تحصيل الإرث من قبل رجل آخر، ثم إنفاقه في سبيل الله فالمنفق سيدخل الجنة.

وورد الفعل المضارع منه مجرداً على زنة (يُفعل)، وذلك في قوله: « فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذلِكَ الْحَسنُ بْنُ علِيّ،  يأْكُلُ مِنْهُ بِالْمعْروفِ،  وَيُنْفِقُ مِنْهُ فِي المَعْروفِ،  فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَن حَدَثٌ وَحُسَيْنٌ حَيٌّ،  قَامَ بِالاْمْرِ بَعْدَهُ،  وَأَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ.... » [3]. على ذوي الحاجات بما يسدها من غير تجاوز[4].
واتصل بواو الجماعة في قوله: « قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً،  وَلِكُلِّ قَائِم مَائِلاً،  وَلِكُلِّ حَيّ قَاتِلاً،  وَلِكُلِّ بَاب مِفْتَاحاً،  وَلِكُلِّ لَيْل مِصْبَاحا يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ،  وَيُنَفِّقوا بِهِ أَعْلاَقَهُم » [5]
 فيتوسلون الى الحياة الدنيا وزينتها باظهار الزهد فيها،  واليأس منها،  والرغبة في الاخرة وحدها كذبا ورياء. وورد المصدر (نـَفـَقـَة)  على زنة (فـَعـَلـَة)  وهو مصدر المرة مرتين ؛ تارةً مُعَرًفًاً بـ(ال) ومُنًكَرًاً تارة اخرى،  وذلك في وصفه (اهل الدنيا)  قائلاً: « وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً،  وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ »[6].

  فإستعمل الإمام (عليه السلام)  (التمثيل)  لبيان حال من عرف الدنيا وخبَّر صروفها،  فعمل للآخرة كان من يسافر من منزل لآخر خصيب لايهمه مايلقى من مشقة،  فعبَّر بالمنزل الجديب عن الدُّنيا،  والمنزل الخصيب عن الآخرة مجازا،  بوصف علاقة الملازمة ؛ لأنً من شأن الدُّنيا الإنقضاء والآخرة الخَصْبُ والنـًـمَاء [7]. 
وجاء المصدر منه على زنة (إفْعال)  مُعـَرَّفَاً بـ(ال)  قال (عليه السلام): « يَا كُمَيْلُ،  الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ:  الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ،  وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ،  وَالْعِلْمُ يَزْكُوعَلَى الاْنْفَاقِ»[8].
و صيغة اسم التفضيل على زنة (أفْعَلَ)،  التي تدلُّ على شيئين إشتركا في صفةٍ واحدةٍ،  وزاد أحدهما على الآخر فيها،  قال (عليه السلام): « لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ،  وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ »[9].

فجاء (أبور وأنفق واغْلى)  على زنة (أفْعَل)  وهي اسماء تفضيل،  وسُبِقَ أغلى بلا النافية الزائدة.  ويدلُّ على أنً (السًلعة والكتاب)  إشتركا في البيع والأكثر والأوفر بيعاً هوالكتاب إذا كان به تحريفاً فهم يُعْرَضُون عند تلاوة الكتاب،  وإظهار أحكامه،  ويؤّولون بتأويلات وأكاذيب والتخييلات الباطلة مـِمّـَن يوافق اّراءَهم وقلوبَهم،  فالدين عنهم هو المصلحة[10].
فالأصل في المعنى أن يُقال:  نَفَقَت الدَّابًةُ تنفٌقٌ نٌفٌوقا،  ماتًتْ،  ونفق السِّعْر يَنْفُقُ نَفاقا:  غذا كَثُر مُشتَروه.  والنًفَقَة:  ماانفَقْتَ واستَنْفَقْتَ على العِيال ونَفْسَك[11].
فـ «النون والفاء والقاف أصلان صحيحان،  يدلُّ أحدهما على انقطاع شيء وذهابه،  والآخر على إخفاء شيء وإغماضه،  ومتى حصل الكلام فيهما تقاربا.  فالاول:  نفقت الدابة نفوقا:  ماتت.  ونفق السِّعر نفاقاً،  وذلك أنه يمضي فلا يكسد ولايقف.  وانفقوا:  نفقت سوقهم.  والنفقة لأنها تمضى لوجهها،... وأنفق الرجل:  افتقر،  أي ذهب ماعنده»[12].
ونفق البيع نفاقا:  راج.  ونفقت السلعة تنفق نَفاقا،  بالفتح:  غَلَت ورغب فيها،  وأنفقها هو ونَفًقها[13].
 ونَفَقَ الشَّيء مضَى ونفدَ،  يُنْفَقُ إمَّا بالبيع نحو: نفق البيع نفاقا،  ومنه نفاق الأيم،  ونفق القوم إذا نفق سوقهم،  وإمّا بالموت نحو:  نفقت الدّابة نفوقا،  وإمّا بالفناء،  نحو: نفقت الدَّراهم تنفق وأنْفقتُها،  والإنفاق قد يكون في المّال وفي غيره.  وقد يكون واجبا او تطوعا[14].
والانفاق اسم إسلامي،  لم تعرفه العرب بمعناه المخصوص،  وهو الذي يستر كفره ويُظْهِر إيمانه،  يقال:  نافق ينافق منافقة ونفاقا،  وفي الحديث: « المـُنْـفـِقُ سلعته بالحلف كَاذِب » المنـّـفًق بالتشديد:  من النفاق هو ضد الكَسَاد[15]) [16].

الهوامش:
[1] نهج البلاغة:  الحكم القصار: 123،  371.
[2] الحكم القصار:  429،  415.
[3] ك 24،  282.
[4] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  4 / 271.
[5] نهج البلاغة:  خ 194،  224.
[6] ك 31،  296.
[7] ظ:  الأثر القراني في نهج البلاغة:  عباس الفحام:  153.
[8] نهج البلاغة:  الحكم القصار 147،  375.
[9] خ 17،  25  وخ 147،  145.
[10] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:   1 /  321.
[11] ظ:  العين (مادة نفق):  5 / 179.
[12] مقاييس اللغة:  5 / 454.
[13] ظ:  لسان العرب:  (مادة نفق):  6 / 4507.
[14] ظ:  المفردات في غريب القرآن:  2 / 650.
[15] ظ:  النهاية في غريب الحديث والأثر:  934.
[16]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 67-71.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 1.0441 Seconds