بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
قد ألجأت الفطرة الإنسان أنْ يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة علامات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنَّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة([1]).
وليس البحث في مصاف التنظير إلى مسألة أولية كلام الإنسان، وإنما البحث بصدد مسألةٍ أثارت تساؤلات عديدة هي وقوع التكليم منه سبحانه وتعالى لبعض الناس فقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ...}([2]) وكذلك قوله تعالى: {... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما}([3]) يدُّل على وقوع التكليم منه لبعض الأنبياء.
وهذه المسالة أثارت تساؤلات عديدة حول كيفية كلامه سبحانه، وقد كشف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام اللثام عن حقيقة هذه المسألة فيما روي عنه في نهج البلاغة قوله: إذْ قال: "الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيماً، بلا جوارح، ولا أدوات، ولا نطق، ولا لهوات..."([4]).
كما أنَّه عليه السلام أوضح هذا المعنى بصورة عامة، وليس فقد فيما يتعلق بكلام الله تعالى لموسى عليه السلام في خطبة إذ قال: "متكلم لا بروية، مريد لا بهمة"([5]).
وقد فسر الإمام الرضا عليه السلام مضمون هذا الأمر فيما يرويه عنه صفوان بن يحيى قال: سأل أبو قرة الإمام الرضا عليه السلام فقال: أخبرني جعلت فداك عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية، فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أنْ يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق، لمخلوق ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير ترددّ في نفس الخبر([6]).
ولم تغب هذه المسألة الهامة عن مفسري الإمامية في القرن الخامس عشر الهجري، فقد قال السيد الطباطبائي: "فإنَّه تعالى أجلُّ شأناً وأنزه ساحةً أنْ يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}([7])، لكنه سبحانه فيما ذكره من قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}([8])، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإنْ نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له"([9]).
ومن هنا أثبتَ السيد العلامة أن كلامه تعالى ـ الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما ـ صفة فعل لا صفة ذات، مستنداً في ذلك على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه في نهج البلاغة.
وناقش السيد السبزواري هذه المسألة في تفسيره (مواهب الرحمن) ورأى أنَّ: "كل صفة إذا صح الاتصاف بها ونفيها ـ أي الثبوت والسلب ـ كانت من صفاة الفعل، وكل صفة لا يمكن سلبها عنه عز وجل فهي صفة الذات، والتكلم مما يمكن سلبه عنه عز وجل، وإثباته له تعالى، فهو من صفات الفعل، قال تعالى: {... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما}([10])، وقال تعالى: {...وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ...}([11])، فهو كالرزق والهداية وغيرها من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها ونفيها من دون أن يلزم محذور في البين، وفعله حادث، فالتكلم حادث"([12]).
وعلى وفق ذلك فأن السيد السبزواري يعقب على قوله تعالى: {... مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ...}([13]) أنه: "يدل على ثبوت صفة التكليم له مع بعض الأفراد، وقد ورد ما يدل على وقوع التكليم منه عز وجل في موارد أربعة:
أحدها: المقام، والثاني: في قوله تعالى: {... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما}([14])، والثالث في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ...}([15])، والرابع في قوله تعالى: {... إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي...}([16])، ولقد حضي موسى عليه السلام بهذه الفضيلة السامية والموهبة العظمى في جميع تلك الموارد"([17]).
وقد كان لنهج البلاغة أثر واضح في تحفيز أذهان المفسرين، ومنهم السيد السبزواري في التقاط هذه الشذرات الجميلة، إذ ظهر ذلك جلياً من استدلال المفسر بقول الإمام علي عليه السلام فقد قال في (المواهب):" في نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام: "متكلم لا بروية، مريد لا بهمة"([18])، ثم استدل بالخطبة الأخرى إذ قال: وفيه أيضاً في خطبة له عليه السلام: "الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيماً، بلا جوارح، ولا أدوات، ولا نطق، ولا لهوات..."([19])، فقد أماط اللثام عن هذه المسالة، وعضد رأيه بما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.([20])
أذن كان لتلك الشذرات الجميلة من كلام الإمام عليه السلام حضور واضح في تفاسير الإمامية، في القرن الخامس عشر الهجري مع تفاوت في عملية التوظيف والاستدلال. [21].
الهوامش:
([1]) ظ : الميزان، 2/ 268.
([2]) البقرة، 253.
(3) النساء، 164.
([4]) نهج البلاغة، 2/ 189.
(4) نهج البلاغة، 2/ 99.
([6]) ظ : الاحتجاج، الطبرسي، 2/ 185، وظ : حياة الإمام الرضا، الشيخ باقر شريف القرشي، انتشارات : سعيد بن جبير ـ قم، 1372 ش، 130.
([7]) الشورى، 11.
([8]) الزخرف، 51.
([9]) الميزان، 2/ 268.
([10]) النساء، 164.
([11]) آل عمران، 77.
(12) مواهب الرحمن، 4/ 202.
([13]) البقرة، 253.
(14) النساء، 164.
(15) العراف، 143.
(16) العراف، 144.
(17) مواهب الرحمن، 4/ 195.
(4) نهج البلاغة، 2/ 99.
([19]) نهج البلاغة، 2/ 189.
(([20] مواهب الرحمن، 4/ 194.
([21] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 137 – 141.