بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
يكشف الكراجكي (ت449هـ/1057م) عن آلية أخرى تعرضت لها فضائل الإمام علي (عليه السلام) في المحاربة والتشويه، تعتمد التأويل، فضلاً عما ذكرناه من الإنكار والمقابلة بالافتعال، فقال: ((وإنما وضع المخالفون هذا الخبر... وهذه عادة منهم جارية في فضائل أهل البيتb، وهي أن يدفعوا منها ما قدروا على دفعه، فإن أعجزهم دفعه–لظهوره وانتشاره–تأولوه بما يصرفه على غير مقتضاه، فإن لم يقدروا على ذلك افتعلوا خبراً يقابلونه به))[1].
وأورد لذلك مثالاً وهو حديث: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة)[2] لمقابلة حديث (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خيرٌ منهما)[3].
وقد مارس أتباع التيارات المذهبية المعادية للإمام علي تأثيراً على المحدثين بفضائل الإمام علي، منعهم أحياناً من المجاهرة بها، أو إملائها في المساجد.
ويلقي النص الآتي ضوءاً كاشفاً على هذه الحقيقة إذ أخرج العقيلي عن عيسى بن يونس قوله: ((ما رأيت الأعمش خضع إلاّ مرة واحدة! فإنه حدثنا بهذا الحديث: (قال علي: أنا قسيم النار)[4]، فبلغ ذلك أهل السُّنة، فجاؤوا إليه فقالوا: أتُحدث بأحاديث تقوي بها الروافضة والزيدية[5]، والشيعة؟! فقال: سمعته فحدّثت به. فقالوا: فكل شيء سمعته تُحدث به؟! قال: فرأيته خضع ذلك اليوم))[6].
ويبدو أن خضوع الأعمش (ت148هـ/765م) هذا كان لقوة مجتمعية غالبة، فقد وصل نهي بعض الفرق إياه عن التحديث بفضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى حد إحراجه[7].
وعلى الرغم من ذلك ظل الأعمش يحدث بفضائل الإمام علي (عليه السلام) حتى عُدّ من المكثرين بها، فلم يكن أمام بعض أئمة المذاهب مثل أبي حنيفة[8] إلاّ غَمزهُ، والتشكيك بمصداقية ما يرويه، بل ودعوته إلى ترك رواية فضائل الإمام علي (عليه السلام) وإعلان التوبة عن ذلك[9].
وقد وقع مثل هذا للحافظ أبي الأزهر النيسابوري (263هـ/876م)[10] فإنه لما حدّث عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ/826م) بحديث في فضل علي[11] أُخبر يحيى بن معين (ت233هـ/847م) بذلك فبينما أبو الأزهر عنده في جماعة أهل الحديث، إذ قال يحيى بن معين: ((مَنْ هذا الكذاب النيسابوري الذي حدّث عن عبد الرزاق بهذا الحديث...))[12])[13].
الهوامش:
[1] الرسالة العلوية، ص27–28. ولتعميق المعنى الذي ذكرناه ينظر في نص ابن قتيبة هذا: ((وإن ذكر ذاكر قول النبي (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه) (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، وأشباه هذا التمسوا لتلك الأحاديث المخارج ليتنقصوه ويبخسوه حقه بغضاً منهم للرافضة، وإلزاماً لعليّ (عليه السلام) بسببهم ما لا يلزمه، وهذا هو الجهل بعينه)). الاختلاف في اللفظ، ص42.
[2] الترمذي، السنن، ص968.
[3] الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/377.
[4] روي هذا الحديث مرفوعاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) وذكره:
- ابن قتيبة، غريب الحديث، 2/150.
- الفسوي، المعرفة والتاريخ، 2/764.
- الدارقطني، العلل، 6/273 رقم 1132.
- الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، 2/301–302.
- ابن المغازلي، المناقب، ص107.
- ابن عساكر، تاريخ دمشق، 2/244–245.
- ابن كثير، البداية والنهاية، 8/110.
وقد سُئل أحمد بن حنبل عن حديث قسيم النار فلم يضعفه ولم يخدش فيه، ولا جرح راويه بل ثبّته واتجه إلى تأويله وبيان معناه، قال محمد بن منصور الطوسي: ((كنا عند أحمد بن حنبل، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروي أن علياً قال: (أنا قسيم النار)؟ فقال: ما تُنكرون من ذا؟ أليس روينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي: (لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يُبغضك إلاّ منافق)؟! قلنا: بلى، قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار. قال: فعلي قسيم النار)). أبو يعلى، طبقات الحنابلة، 2/358 حديث رقم 448.
[5] الزيدية: الذين قالوا بإمامة زيد بن علي (عليه السلام)، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد فاطمة، كائناً من كان بعد أن يكون عنده شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، وصالح بن حي. واشتهر منهم عدد من المتكلمين والعلماء.
ابن النديم، الفهرست، ص311.
[6] الضعفاء الكبير، 3/416؛ الطباطبائي، أهل البيت في المكتبة العربية، ص565.
[7] هذا ما حدث للأعمش الذي أجاب أحد سائليه عن فضيلةٍ للإمام علي بالقول: ((هؤلاء المرجئة لايدعوني أُحدث بفضائل علي، أخرجوهم من المسجد حتى أُحدّثكم)).
الفسوي، المعرفة والتاريخ، 2/764؛ ابن عساكر، ترجمة أمير المؤمنين، 2/245.
[8] النعمان بن ثابت بن زوطي، من موالي تيم الله بن ثعلبة، وهو من أهل كابل، كان من التابعين، لقي عدة من الصحابة، له من الكتب: كتاب الفقه الأكبر، كتاب رسالته إلى البستي، كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرد على القدرية وغيرها، توفي سنة 150هـ/767م في بغداد.
ابن قتيبة، المعارف، ص277–278؛ ابن النديم، الفهرست، ص342–343.
[9] روى الطوسي في كتابه الأمالي، ص482، عن شريك بن عبد الله القاضي قال: ((حضرت الأعمش في علّته التي قبض فيها،.. إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة، فسألوه عن حاله،... فأقبل عليه أبو حنيفة فقال: يا أبا محمد، اتق الله وانظر لنفسك، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا... وقد كنت تحدث في علي بن أبي طالب بأحاديث، لو رجعت عنها كان خيراً لك!! قال الأعمش: مثل ماذا يا نعمان؟! قال: مثل حديث عباية: (أنا [أي علي (عليه السلام)] قسيم النار)، قال: أو لمثلي تقول يا يهودي؟! أقعدوني، سندوني، اقعدوني، حدثني–والذي مصيري إليه–موسى بن طريف، ولم أرَ أسدياً كان خيراً منه، قال: سمعت عباية بن ربعي–إمام الحيّ–قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ((أنا قسيم النار، أقول هذا وليّي دعيه، وهذا عدوي خذيه))، وحدّثني أبو المتوكل الناجي في إمرة الحجاج... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزّ وجل، فأقعد أنا وعليّ على الصراط، ويقال لنا: أدخِلا الجنة من آمن بي وأحبكما، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما)... ثم تلا: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾، قال: فجعل أبو حنيفة أزاره على رأسه، وقال: قوموا بنا لا يجيئنا أبو محمد بأطم من هذا)). وينظر: ابن أخي تبوك، مناقب علي، ص336.
وقد عدّ ابن حجر عباية بن ربعي، وموسى بن طريف اللذين رويا عن الإمام علي (عليه السلام) حديث (أنا قسيم النار) من غلاة الشيعة وعدّهما العقيلي غاليان ملحدان!!!. لسان الميزان، 3/247.
[10] أحمد بن الأزهر بن منيع العبدي النيسابوري الحافظ الثقة الرحال، روى عنه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة ومحمد بن الحسين القطان وغيرهم، وكان من علماء المحدثين قال عنه أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي والدارقطني: لا بأس به. توفي سنة 263هـ/876م.الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/97–98.
[11] الحديث هو: ((يا علي أنت سيّدٌ في الدنيا سيّدٌ في الآخرة، حبيبُك حبيبي، وحبيبي حبيبُ الله، وعدوُّك عدوِّي، وعَدوّي عدوّ الله، والويلُ لمن أبغضك بعدي)) وعلق عليه الحاكم النيسابوري بعد أن أورده عن أبي الأزهر عن عبد الرزاق... قال: ((صحيح على شرط الشيخين، وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة، وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح)). المستدرك، 3/340.وقد أخرج هذا الحديث ابن حنبل باختلاف يسير في اللفظ وزاد فيه: (من أحبك فقد أحبني). مناقب أمير المؤمنين، ص254–255.
[12] الذهبي، سير أعلام النبلاء، 7/197.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص 121 – 125.