بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
إن وقعة الجمل كحدث مريع، أحدث صدعاً عميقاً في الصف الإسلامي، ولم يكن مقبولاً بحقائقه الأليمة، لأن في ذلك مسّاً بقدر الصحابة وحطاً من مكانة عائشة، ومن أجل تبرئة أولئك، عول على أسطورة (ابن سبأ أو ابن السوادء)[1] التي تفرد الطبري بروايتها، اعتماداً على سند ضعيف مصدره سيف بن عمر[2]، ولكن ذلك لا يعيّر من الواقع، لأن الذين خرجوا إلى علي (عليه السلام) من أهل الكوفة لم يلبوا دعوته الا بعد جدل طويل وأخذ ورد، بمعنى انهم كانوا في بداية امرهم مترددين، وقد سجل التاريخ جانباً من ذلك الجدل[3]، وعليه فإن من خرج منهم إلى علي (عليه السلام) خرج مقتنعاً، ولو كانت هناك ايد خفية خائفة لسمع صوتها وبان تأثيرها في ذلك الجدل الذي اشترك فيه كل من عمار بن ياسر والحسن بن علي (عليه السلام)، وهاشم بن عتبه[4]، وصعصعة بن صوحان[5]، وأبي موسى الاشعري[6]، ومالك الأشتر[7] ومحمد بن أبي بكر[8]. ثم ان جيش علي (عليه السلام) ـ كما تحدثنا المصادر التاريخية ـ قد كان تحت قيادته المباشرة، ملتزما بتعليماته، من ذلك انه قال للأشتر وقد كان على ميمنته يوم الجمل «احمل فحمل في اصحابه، فكشف من بازائه، ثم قال لهاشم بن عتبه... ـ وكان على الميسرة ـ أحمل فحمل في المضرية، فكشف من بازائه فقال علي (عليه السلام) لأصحابه، كيف رايتم ميسرتي وميمنتي»[9]، وفي ذلك ما يدل على انضباط قيادته، وائتمار جنده بإمرته، مما لا يدع مجالاً للدس بينهم، خاصة وان ساسته الحربية تعتمد الدفاع في أية حرب يجبر على خوضها، بالرغم من اعتقاده بسلامة موقفه لأنه يرى ان بدء العدو بالحرب حجة عليه لكونه البادئ، لذلك كان يوصي جنده في كل موطن قتال بقوله «لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم»[10]، فالقتال ـ من وجهة نظر علي (عليه السلام) ـ هو الملاذ الاخير الذي يلجأ إليه مضطراً بعد ان تنفذ كل جهوده السليمة، لأنه يرى نفسه هادئا ومصلحاً لا متسلطاً يسعى إلى الحكم بأية وسيلة[11].
فحرب الجمل قد خاضها علي (عليه السلام) مضطراً ليس بفعل المندسين في جيشه، ولكن أراده طلحة والزبير ومعهما عائشة، هي التي حتمت عليه خوضها، خاصة ان اقطاب حرب الجمل الثلاثة قد ادركوا ان المساومة مع علي (عليه السلام) على حساب المباديء لن تجدي، فلجأوا إلى الحل المسلح لإقصائه حتى يتمكنوا من تحاشي تهمة تالبيهم على عثمان فيما لو استقر الوضع، وكي يصلوا إلى تحقيق هدفهم المادي المشترك المتمثل في تمكنهم من السلطة فيما لو انتصروا عليه.
فطلحة بن عبيد الله التيمي، قد كان من اكبر المؤلبين على عثمان، فهو الذي أمر الثوار بتشديد الحصار عليه، ومنع الماء عنه، كما استولى على مفاتيح بيت المال أثناء الحصر[12]، وقد حاول علي (عليه السلام) ثنيه عن كل ذلك، ولكنه ظل مصرا على موقفه[13] ولما قتل عثمان ووجد اقبال الناس على علي (عليه السلام) بايعه معتقداً انه سينال الخظوة عنده بحكم صحبته فطلب منه ان يوليه البصرة[14]، فأبى عليه ذلك.
والزبير بن العوام كان من أكبر المعاضدين لعلي (عليه السلام)، والمساندين لحقه في المطالبة بالخلافة منذ اليوم الذي تمت فيه البيعة لأبي بكر[15] حتى الوقت الذي انعقدت فيه لجنة الشورى، فلقد كان من ضمن الستة الذين رشحهم عمر للخلافة، فتنازل عن حقه في تلك اللجنة لعلي (عليه السلام)[16]، إلا أنه غير موقفه من علي (عليه السلام) بعد ان تمت البيعة له بعد مقتل عثمان، ويعزى ذلك التغيير ـ فيما نعتقد ـ إلى عدة عوامل، في مقدمتها العامل المادي، إذ لم يكن الزبير راضيا عن نظام المساواة لتعارضه مع مصلحته الذاتية[17]، كما ان علياً (عليه السلام) لم يحقق له رغبته في توليته الكوفة[18]، إذ يبدو من حواره مع علي (عليه السلام) حول طلب الولاية، ان العامل المادي هو الذي اسخطه على عثمان، إذ يقول هو وطلحة لعلي (عليه السلام) بعد ان بايعاه «قد رايت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، وعلمت رأي عثمان في بني أمية، وقد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض اعمالك»[19]، ولما امتنع علي (عليه السلام) عن الإستجابة لما طلباه، قال الزبير متذمراً «هذا جزاؤنا من علي (عليه السلام)، أقمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب، وسببنا له القتل، وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلما نال ما اراد جعل دوننا غيرنا»[20]، أضف إلى ذلك تأثير ولده عبد الله ـ ابن اسماء شقيقة عائشة ـ عليه، فلقد كان الطموح إلى الإمارة يملأ حنايا الابن، بحيث لم يترك لأبيه مجالاً للتفكير في عاقبة مجابهة علي (عليه السلام) ونكث بيعته، ولإدراك علي (عليه السلام) مدى تأثير الابن على ابيه روي عنه قوله «ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله»[21]. ولقد بذل علي (عليه السلام) كل ما في وسعه لصد الزبير عما عزم عليه متبعاً أسلوب الملاينة المقرون بعنصر القرابة، ولكن كل ذلك لم يجد نفعاً، من ذلك أنه قبل بدء القتال قال لابن عباس حين أرسله للتفاهم مع أصحاب الجمل «لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور، عاقصاً قرنه، يركب الصعب، ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير، فإنه لين العريكة، فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وانكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا»[22] لكن الزبير لم يثب إلى رشده ويعتزل القتال، إلا بعد أن نشب القتال)[23].
الهوامش:
[1] ابن السوداء، أو عبد الله بن سبأ: «تنسب إليه الطائفة السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، اصله من أهل اليمن، وكان يهوديا من أمة سوداء، فأظهر الإسلام، طاف ببلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الائمة، ويلقى بينهم الشر، وكان قد بدا اولا بالحجاز ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم دخل دمشق في أيام عثمان بن عفان، فلم يقدر على ما يريد عند احد من أهل الشام، فاخرجوه حتى اتى مصر فاعتمر فيهم واظهر مقالته بينهم ابن بدران»تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/431 ـ وقد وردت الاشارات عن عبد الله بن سبا وانسياحة في البلاد أيام عثمان وعلي (عليه السلام) في تاريخ الطبري (ت310هـ) 4/283، 326، 331، 340، 349، 398، 493، 505. وتاريخ الطبري هو مصدر الاسطورة ـ كما نعتقد ـ وقد أخذها عنه الكثير من المؤرخين الذين اتوا من بعده، فسند الرواية التي عول ابن عساكر (ت 571) في شأن عبد الله بن سبأ هو «روى سيف بن عمر بن أبي حارثة، وأبي عثمان قالا...»ابن بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/432، وهو سند رواية الطبري عن سيف، أم ابن الاثير(ت 630) فقد ذكر اعمال عبد الله بن سبأ والسبأية في حكم عثمان ومن ثم في خلافة علي (عليه السلام) ـ الكامل في التاريخ 3/57، 72،77،120، دون اسناد، لكنه ذكر في مقدمة تاريخه 1/5 بأنه في تأليفه قد ابتدأ «بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبرس... (فأخذ) ما فيه من تراجمة لم (يخل) بترجمة واحدو منها»، ويعرض ابن خلدون (ت 732) (الرواية عبد الله بن سبأ في موضوع «أمر الجمل» تاريخ ابن خلدون 2/606، ثم يقول في نهاية الرواية 2/622 «هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدنا للوثوق بسلامته»، واذا ما رجعنا إلى الطبري في مقدمة تاريخ 1/8 فإنه يقول «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل انه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وانما اتي من قبل بعض ناقليه الينا، وانا انما ادينا ذلك على نحو ما ادي الينا»فهو يبريء ساحته ويلقي بالمسؤولية التامة على من أخذ عنهم من الرواة واذا ما عدنا إلى سند رواية عبد الله ابن سبأ كما أوردها الطبري، فسنجد أن مصدرها هو سيف بن عمر الضبي، الذي قال عنه الرازي (ت 327) في كتاب الجرح والتعديل 4/278 «ضعيف الحديث.. متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي»، وقال فيه ابن حجر (ت 852) في كتاب تهذيب التهذيب 4/495 «سيف بن عمر البرجمي، ويقال السعدي، ويقال الضبعي، ويقال الاسدي الكوفي، صاحب كتاب الردة والفتوح... ضعيف الحديث، ليس خير فيه... قال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي والدار قطني: ضعيف... وقال ابن حيان: يروي الموضوعات عن الاثبات... وقالوا: انه كان يضع الحديث... وقال الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط... مات زمن هارون»، فسند الرواية متهافت، اضافة إلى ذلك، فإن كتب الطبقات والتاريخ المعول عليها والسابقة في تاليفها لتاريخ الطبري قد سكتت تماما عن ابن سبأ واعماله الشنيعة تجاه الإسلام، فابن سعد (ت230) في الطبقات الكبرى 3/19 وما بعدها و53 وما بعدها في سيرتي علي (عليه السلام) وعثمان؛ لم يات على ذكر ابن سبأ واسطورته أثناء ذكره لحوادث عصر كلا الخليفتين، كما لم يذكر ذلك أيضاً البلاذري (ت 279) في انساب الاشراف 2/305 وما بعدها، فالاسطورة كما نعتقد من نسج خيال سيف بن عمر ومن شايعه من مرتزقة الرواة ونتفق مع طه حسين بأن «اكبر الظن... ان خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشككوا في بعض ما نسب من الاحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي (عليه السلام) من ناحية اخرى، فيردوا بعض أمر الشيعة إلى يهودي اسلم، كيداً للمسلمين»، الفتنة الكبرى ـ عثمان 1/134.
[2] راجع الهامش السابق.
[3] بشأن ذلك الجدل راجع تاريخ الطبري 4/481.
[4] هاشم بن عتبه ـ صحابي من أصحاب علي (عليه السلام) استشهد في صفين ـ راجع ترجمته في أسد الغابة 5/377.
[5] صعصعة بن صوحان العبدي، كان مسلما على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكنه لم يره، وهو من سادات عبد القيس ـ كان من أصحاب علي (عليه السلام) توفي في أيام معاوية ـ أسد الغابة 3/21.
[6] أبو موسى الاشعري ـ عبد الله بن قيس ـ صحابي استعمله الرسول (صلى الله عليه وآله) على ربيد وعدن واستعمله عمر على البصرة وأقره عثمان عليها ثم عزله، وكان أحد الحكمين (ت 42هـ) أسد الغابة 3/36.
[7] مالك الأشتر ـ أحد أشراف الأبطال المذكورين، كاد يهزم معاوية في صفين لولا رفع المصاحف. لما رجع من صفين جهزه علي (عليه السلام) واليا على مصر، فمات في الطريق مسموما سنة ثمان وثلاثين ـ راجع سير أعلام النبلاء، 4/34.
[8] محمد بن أبي بكر ـ من أصحاب علي (عليه السلام) ـ ولاه مصر، لما رجع معاوية من صفين جهز له جيشاً، فانهزم محمد وقتل واحرق جثمانه سنة ثمان وثلاثين. راجع ترجمته عند العماد الحنبلي ـ شذرات الذهب 1/48.
[9] العقد الفريد ـ 4/325.
[10] تاريخ الطبري 5/10، رسائل ـ 14.
[11] راجع قول علي (عليه السلام) عن موقفه من الحرب ـ خطب 54.
[12] راجع العقد الفريد 4/299 وتاريخ الطبري 4/379، 407، والإمامة والسياسة 1/38.
[13] المصدر السابق نفسه.
[14] راجع قول طلحة بشأن ذلك ـ تاريخ الطبري 4/405.
[15] راجع موقفه من بيعة أبي بكر في: الإمامة والسياسة 1/11.
[16] راجع ذلك عند ـ ابن عبد ربه ـ العقد الفريد 4/278.
[17] راجع ص 148 من هذا البحث.
[18] راجع أنساب الأشراف 2/218.
[19] شرح ابن أبي الحديد 1/231.
[20] ابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة 1/51.
[21] حكم ـ 461.
[22] خطب ـ 31.
[23] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 249 - 255.