بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
إن قراءة النصوص التاريخية تكشف عن أن عائشة بدأ صوتها يعلو في أيام حكم عثمان متخذا جانب المعارضة فكانت «أشد الناس تأليباً عليه وتحريضاً»[1]، والسبب المادي ـ كما يتهيأ لنا ـ هو الدافع وراء ذلك، لأن عثمان قد صيرها «اسوة غيرها من نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله)»[2] بعد أن كان عطاؤها في عهد عمر يزيد عليهن بألفي درهم[3]، فدخلت معه في منافرات، وحرضت على قتله[4]، وكانت تتمنى لوحل في مكانه، طلحة بن عبيد الله التيمي[5] على اعتبار انها تيمية أيضاً فلما قتل عثمان ووصلها خبر مبايعة الناس علي (عليه السلام)، ادركت ان طموحتها في إرجاع الخلافة تيمية أصبح بعيد المنال[6]، هذا بالإضافة إلى ما كانت تحمله في نفسها على علي (عليه السلام)، فكتب السيرة تحدثنا بأنها لم تكن تحب حتى ذكر اسمه[7].
لقد تهيأت لأصحاب الجمل كل الظروف التي تتيح لهم محاربة علي (عليه السلام)، حين توفرت لهم الطاعة، والسخاء، والشجاعة، وقد اجمل علي (عليه السلام) تلك المزايا في قوله «اني منيت بأربعة: ادهى الناس، وأسخاهم طلحة، واشجع الناس الزبير، واطوع الناس في الناس عائشة»[8] والرابع يعلى بن منية[9] الذي وصفه علي (عليه السلام) بأسرع الناس إلى اشعال الفتن.
فقضية حرب الجمل قد كانت محسومة بالنسبة لعلي (عليه السلام)، فهولا يجد مبرراً في الخروج على السلطة ما دامت تسير بأمور المسلمين بما يتماشى مع القرآن والسنة وتحقيق العدل للجميع فالتصدي للفتنة واخمادها واجب ديني في حالة عدم جدوى النصح، وهو ما يمكن استخلاصه مما أثر عنه (عليه السلام) من اقوال، فبصدد كشفه أساليب التضليل التي حاول بها أصحاب الجمل تمويه الحقيقة يقول «انا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها احد غيري، بعد ان ماج غيهبها واشتد كلبها»[10]، والاجتراء الذي يقصده علي (عليه السلام) هو تبصره بملابسات الفتنة ومعالجتها بمقتضى الشرع. فإن تكن واقعة الجمل قد احدثت انقساما في الصف الإسلامي، الا ان نتائجها لم تخل من ايجابيات، لم تكن لتعرف لولا تلك المعركة، لأن علياً (عليه السلام) قد عامل أصحاب الجمل بعد هزيمتهم معاملة تكاد تختلف تماماً عما عهده المسلمون في معاملتهم للمهزومين، حيث يجعلون من اراضيهم واموالهم غنيمة للمحاربين، ومن نسائهم واطفالهم واسراهم سبايا يحق بيعهم واسترقاقهم، ولكن علياً (عليه السلام) في حرب الجمل لم تأخذ بذلك الاسلوب، مما جعل أصحابه يستغربون تصرفه وينكرونه عليه بقولهم «تحل لنا دماءهم، ولا تحل لنا نساءهم؟ فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة، فخاصموه، قال: فهاتوا سهامكم واقرعوا على عائشة... ففرقوا وقالوا نستغفر الله»[11]، فحرب الجمل ونتائجها من وجهة نظر علي (عليه السلام)، مسألة فقهية، وضحت واستبانت حين باشرها بنفسه «اذ لم يكن المسلمون قبلها يعرفون كيفية قتال أهل القبلة»[12]، فقد أثر عن الشافعي قوله «لولا علي لما عرف شيء من أحكام أهل البغي»[13]، الا أنها وان حسمت في صالح علي (عليه السلام) فإنها لم تكن سوى تمهيد لحرب تزعّمها من أسماهم علي (عليه السلام) القاسطين[14].
الهوامش:
[1] ابن الأثير أسد الغابة ـ 3/591.
[2] تاريخ اليعقوبي 2/175، وورد مثله عند ابن أعثم الكوفي في الفتوح 2/419.
[3] راجع سير اعلام النبلاء 2/187.
[4] راجع ص 249 من هذا البحث.
[5] راجع مقالتها بشأن طلحة ـ تاريخ الطبري 4/407.
[6] راجع مقالته بشأن مبايعة علي (عليه السلام) ـ تاريخ الطبري 359، الإمامة والسياسة 1/25، الكامل في التاريخ 3/106.
[7] راجع سيرة ابن هشام 4/298، وتاريخ الطبري 3/189.
[8] ابن عبد البر ـ الاستيعاب ـ بهامش الإصابة 2/221.
[9] يعلى بن منية ـ وهو اسم امه واسم ابيه أمية، استعمله عمر على بعض اليمن وكان على الجند باليمن حين بلغه قتل عثمان، فأقبل لنصره، ولكنه لم يدركه، فقدم مكة بعد انقضاء الحج، وأخذ يحرض على الثأر من قتلة عثمان، راجع ترجمته في أسد الغابة 5/523.
[10] خطب ـ 92.
[11] المتقي الهندي ـ كنز العمال ـ 11/337.
[12] شرح ابن أبي الحديد 9/331.
[13] المصدر السابق نفسه.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 255- 257.