الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام: 6- قوله عليه السلام: ((والدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ ولأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ))

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام: 6- قوله عليه السلام: ((والدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ ولأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ))

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-10-2022

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة وفيها يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا، يقول عليه السلام:
الْحَمْدُ لِلَّه غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِه ولَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِه ولَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِه ولَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِه الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْه رَحْمَةٌ ولَا تُفْقَدُ لَه نِعْمَةٌ.
والدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ ولأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ وهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرة [1] قَدْ عَجِلَتْ[2] لِلطَّالِبِ والْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا[3] بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ  ولَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ ولَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ[4].

شرح الألفاظ الغريبة:
مقنوط: ميؤوس، من القنوط وهو اليأس؛ مستنكف: الاستنكاف: الاستكبار؛ مُنِيَ لها الفناء: - ببناء الفعل للمجهول – أ ي قُدّرَ لها؛ الجَلَاءُ: الخروج من الأوطان؛ التبست بقلب الناظر: اختلطت به محبّةً؛ البلاغ: ما يتَبلّغ به، أي يُقْتَات به مدّة الحياة؛ الكَفاف: ما يكُفّكَ أي يمنعك عن سؤال غيرك، وهو مقدار القوت[5].

شرح ابن ميثم البحراني:
اعلم أنه نبّه على استحقاق الله تعالى للحمد ودوامه باعتبار ملاحظة ستّة أحوال: فأشار إلى الحالة الأولى بقوله: غير مقنوط من رحمته مقررا لقوله تعالى:{ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[6]، ولقوله: {لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}[7] وهذه الحال مما يشهد بإثباتها العقل إذ كان العبد عند أخذ العناية الإلهية بضبعيه يعلم استناد جميع الموجودات كليها وجزئيها إلى مدبر حكيم وأنه ليس إلا لينجذب إلى الأصلي ومبدئه الأولي بالتوحيد المحقق والحمد المطلق نار أججت وجحيم سعرت، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[8] فلا ييأس من روح الله عند نزول أمر واجب النزول به مما يعده شراً بل يكون برجائه أوثق وقلبه بشموله العناية له أعلق فإنه لا ييأس من روح الله إلا الذين عمت أبصار بصائرهم عن أسرار الله، فهم في طغيانهم يعمهون وأولئك هم الخاسرون.
 وأشار إلى الحالة الثانية بقوله: ((ولا مخلوًّ من نعمته))، تقريراً لقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ}[9]، فيسوغ نعمته دائم لآثار قدرته التي استلزمت طبايعها الحاجة إليه فوجب لها فيض جوده فاستلزم ذلك وجوب تصريحها بلسان حالها ومقالها بالثناء المطلق عليه ودوام الشكر له، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[10] .

وأشار إلى الحالة الثالثة بقوله: ((ولا مأيوس من مغفرته)) تقريراً لقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...} الآية [11]، وهي شهادة بشمول ستره وجميل عفوه وغفره لمن جذبت بعقله أيدي شياطينه لتحطّه إلى مهاوي الهلاك فعجز عن مقاومتها بعد ان كانت له مسكة بجناب الله فضعفت تلك المسكة عن أن تكون منجاة له حال مجاذبته لهواه وإن كان ذلك الغفران متفاوتاً بحسب قوة تلك المسكة وضعفها والعقل مما يؤيد ذلك ويحكم بصحة هذه الشهادة فإن كل ذي علاقة بجناب الله سيخلص من العاقب وإن بعد خلاصه على ما نطق به البرهان في موضعه، وذلك يستلزم الاعتراف بالإحسان ودوام الثناء والحمد.
ثم أشار إلى الرابعة بقوله: ((ولا مستنكف عن عبادته)) تقريراً لقوله تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [12] وقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ..} الآية [13] وكونه تعالى غير مستنكف عن عبادته شاهد عظيم على كمال عظمته وأنه المستحق للعبادة دون ما عداه إذ هو المجتمع للكمال المطلق فلا جهة نقصان فيه إليها يشار فيكون سبباً للاستنكاف والاستكبار وغير، مع محال السلوب الثلاثة بعدها منصوبات على الحال.
وقوله: ((الذي لا تبرح فيه رحمة ولا تفقد له نعمة)):
اعتباران آخران يستلزمان في ملاحظتهما وجوب شكره تعالى.
ونبه بقوله: ((لا تبرح)) على دوام رحمة الله لعباده، وقوله: ((تفقد له نعمة)).

كقوله: ((ولا مخلو من نعمته)).
ثم أعقب ذلك بالتنبيه على معائب الدنيا؛ للتنفير عنها، فذكر وجوب الفناء لها، ثم حذر بذكر العيب الأكبر لها الذي ترغب – مع ذكره وملاحظته – من له أدنى بصيرة عن الركون إليها ومحبة قيناتها، وهو مفارقتها الواجبة والجلاء عنها.

ثم أردف ذلك بذكر جهتين من جهات الميل إليها:
إحديهما: منسوبة إلى القوة الذائقة وهي حلاوتها والأخرى: إلى القوة الباصرة وهي خضرتها.
وإطلاق لفظيهما مجاز كنى به عن جهات الميل إليها، من باب إطلاق لفظ الجزء على الكل.

وإيراده لهذين الوصفين – اللذين هما وصفا مدح في معرض ذمها – كتقدير اعتراض على ذمها؛ لغرض أن يجيب عنه ولهذا عقب ذكرهما بما يصلح جواباً وبينه على ما يصرف عن الميل إليها من هاتين الجهتين، وهو كونها معجلة للطالب؛ إذ كان من شأن المعجل أن ينتفع به في حال تعجيبه دون ما بعده، خصوصاً في حق من أحب ذلك المعجل، ولم يلتفت على ما سواه.
والدنيا كذلك كما أشار إليه بقوله: ((والتبست بقلب الناظر)) وإنما خص الناظر لتقدم ذكر الخضرة، التي هي من حظ النظر، فمن عجلت له منحه والتبست بقلبه وكان لا بد من مفارقتها لم ينتفع بما يعدها، بل بقي في عذاب الفراق منكوساً، وفي ظلمة الوحشة محبوساً، وإليه أشار التنزيل الإلهي: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[14].

ثمّ لمّا نبّه على معائبها أمر بالارتحال عنها ولم يأمر به مطلقاً، بل لا بدّ معه من استصحاب أحسن الأزواد؛ إذ كانت الطريق المأمور بسلوكها في غاية الوعارة مع طولها وقصر المدة التي يتخذ فيها الزاد، فلا ينفع إذن إلاّ الزاد الأقوى الأبقى الذي لا يتطرق إليه فناء.

ولا تفهمنّ – أعدّك الله لإفاضة رحمته – من هذا الارتحال الحسّيّ الحاصل لك من بعضها إلى بعض، ولا من الزاد المأكول الحيواني فإنّ أحسن ما يحضرنا منه ربّما كان منهيّاً عنه، بل المأمور به ارتحال آخر يتبيّنه من تصور سلوك طريق الآخرة.
فإنّك لّما علمت أنّ الغاية من التكاليف البشرية هي الوصول إلى حضرة الله ومشاهدة جلال كبريائه، علمت من ذلك أنّ الطريق إلى هذا المطلوب هي آثار جوده وشواهد آلائه، وأنّ القاطع لمراحل تلك الطريق ومنازلها هو قدم عقلك مقتدياً بأعلامها الواضحة، كلما نزل منها منزلاً أعدّته المعرفة به؛ لاستلاحة أعلام منزل آخر أعلى وأكرم منه كما قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}[15] إلى أن يستقرّ  {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[16] .

وإذا تصورت معنى الارتحال- وقد علمت أن لكل ارتحال وسفر زاد- أعلمت أنّ أكرم الزاد وأحسنه في هذا الطريق ليس إلاّ التقوى والأعمال الصالحة، التي هي غذاء للعقول ومادّة حياتها، وإليه الإشارة بقوله: {تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى}[17]، وأشار بقوله: ((ما بحضرتكم)): إلى ما يمكننا أن نأتي به من الأعمال الصالحة في حياتنا الدنيا، ثمّ عقّب الأمر باتّخاذ الزاد بالنهي عن طلب الزيادة على ما يقوّم به صورة البدن من متاع الدنيا؛ إذ كان البدن بمنزلة مركوب تقطع به النفس مراحل طريقها، الزيادة على المحتاج إليه ممّا يحوج الراكب إلى الاهتمام به والعناية بحفظه المستلزم  لمحبّته وكلّ ذلك مثقل للظهر، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ))، ولا تمدّنّ أعينكم فيها إلى ما متّع المترفون؛ فتقصروا في الرحيل وتشغلوا بطلب مثل ما شاهدتم وبالله التوفيق[18])([19]).

الهوامش:
[1] في نهج البلاغة لصبحي صالح: خضراء.
[2] في نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: عجلت.
[3] في شرح نهج ابن ميثم ونهج محمد عبده: عنها.
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 85/خطبة رقم 45، وهي في نهج البلاغة، تحقيق الشيخ العطار: 106/ خطبة رقم 45، شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 117 – 118/ خطبة رقم 44، نهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 104- 105.
[5] شرح الألفاظ الغريبة: 580.
[6] الأعراف: 156.
[7] يوسف: 87.
[8] الذاريات: 56.
[9] النحل: 53.
[10] الإسراء: 44.
[11] الزمر: 53.
[12] في شرح نهج ابن ميثم: (لا يستنكفون من عبادته ولا يستكبرون) والصحيح هو المثبت في المتن. الأنبياء: 19.
[13] النساء: 172.
[14] الإسراء: 18.
[15] الانشقاق: 19.
[16] القمر: 55.
[17] القرة: 197.
[18] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 118 – 121/ شرح الخطبة رقم44.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 36-41.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2543 Seconds