الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام 8- قوله عليه السلام: ((الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي عَلَا بِحَوْلِه ودَنَا بِطَوْلِه...))

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام 8- قوله عليه السلام: ((الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي عَلَا بِحَوْلِه ودَنَا بِطَوْلِه...))

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-11-2022

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة أولها:
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي عَلَا بِحَوْلِه ودَنَا بِطَوْلِه مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وفَضْلٍ وكَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وأَزْلٍ – إلى أن يقول عليه أفضل الصلاة والسلام متنفراً من الدنيا:- فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا  يُونِقُ مَنْظَرُهَا ويُوبِقُ مَخْبَرُهَا. غُرُورٌ حَائِلٌ، وضَوْءٌ آفِلٌ، وظِلٌّ زَائِلٌ، وسِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا واطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَه إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ ووَحْشَةِ الْمَرْجِعِ ومُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وثَوَابِ الْعَمَلِ. وكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ[1] لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً ولَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا ويَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وصَيُّورِ الْفَنَاءِ[2].

شرح الألفاظ الغريبة:
عَلَا بِحَوْلِه: عز وارتفع عن جميع ما سواه، لقوته المستعلية بسلطة الإيجاد على كل قوة؛ دَنَا بِطَوْلِه: أي إنّه مع علوّه سبحانه وارتفاعه في عظمته دنا وقرب من خلقه بطوله: أي عطائه وإحسانه؛ الأَزْل: - بالفتح – الضيق والشدّة؛ رَنِقٌ: - كفرح – كَدِرٌ؛ رَدِغٌ: كثير الطين والوحل؛ المشرع: مورد الشاربة للشرب؛ يُونِقُ: يُعْجِبُ؛ يُوبِقُ: يُهْلِكُ؛ حائل: اسم فاعل من حال، إذا تحول وانتقل؛ وضوء آفِلٌ: غائب لا يلبث أن يظهر حتى يغيب؛ السِّنَاد: - بالكسر – ما يستند إليه أو دعامة يُسْنَدُ بها السقف؛ اطمأنّ ناكرها: - اسم فاعل من نكر الشيء، من باب علم- أي جهله فأنكره؛ قمص الفرس وغيرها يقمص – من بابي ضرب ونصر – قمصا وقماصاً: أي استن، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معاً؛ قنصت بأحبلها: اصطادت بشباكها وحبالها؛ أقصدت: قتلت مكانها من غير تأخير؛ أغلقت به: ربطت بعنقه؛ أوهاق المنية: جمع وهق: - بالتحريك أو بفتح فسكون – كما يقال نهر ونهر، أي حبال الموت؛ ظنك المضجع: ضيق المرقد، والمراد القبر؛ معاينة المحل: مشاهدة مكانه من النعيم والجحيم؛ ثواب العمل: جزاؤه الأعم من شقاء وسعادة؛ الخلف: المتاخرون؛ السلف: المتقدمون؛ بعقب: - بباء الجر وسكون القاف – بمعنى بعد، وأصله جري الفرس بعد جريه، يقال: لهذا الفرس عقب حسن؛ لا تقلع المنية اختراماً: أي لا تكف المنية عن اخترامها، أي استئصالها للأحياء؛ لا يرعوي الباقون: أي لا يرجعون ولا يكفون؛ اجتراما: افتعال من الجرم، أي اقتراف السيئات؛ يحتذون مثالاً: أ يشاكلون بأعمالهم صور أعمال من سبقهم ويقتدون بهم يمضون ارسالا: جمع رسل – بالتحريك – وهو القطيع من الإبل والغنم والخيل؛ صيور الأمر: - كتنور – مصيره وما يؤول إليه[3] .

شرح نهج ابن ميثم البحراني:
مدار هذا الفصل على التنفير عن الدنيا بذكر معايبها وما يؤول إليه، وذكر لها أوصافاً:
الأول: كونها ((رنق مشربها)) وهو كناية عن كدر لذاتها بشوائب المصائب من الهموم والأحزان، والأعراض والأمراض.
الثاني: كونها ((ردغ مشرعها))، ومشرعها: محل الشروع في تناولها والورود في استعمالها وكونها ردغاً وصف للطريق المحسوس استعير له ووجه المشابهة كون طريق الإنسان في استعمال الدنيا والتصرف فيها ذات مزالق ومزال أقدام تهوي به إلى جهنم لا يثبت فيها إلا قدم عقل قد هجر في ضبط قواه، وقهر سطوة شياطينه كما أن الطريق ذات الوحل كذلك وهو من لطائف إشاراته عليه السلام.
الثالث: كونها ((يونق منظرها ويوبق مخبرها)) وهو إشارة إلى اعجابها لذوي الغفلة بزينتها الحاضرة مع هلاكهم باختبارها وذوقهم لحلاوتها وغرض الالتذاذ بها.
الرابع: كونها ((غروراً حائلاً)) يروى بفتح الغين وضمها ومعنى الأول ذات غرور: أي تغر الخلق بزخارفها فيتوهمون بقاءها ثم تنتقل عنهم وتحول ومن روى بالضم جعلها نفسها غروراً: والغرور يطلق على ما يغتر به حقيقة عرفية.
الخامس: كونها ((ضواء آفلا)) استعار لفظ الضوء لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين يقال: على فلان ضوء: أي له منظر حسن أو لما ظهر لهم من وجوه مسالكها فاهتدوا به إلى تحصيلها ومداخلها ومخارجها وعلى التقديرين فهو ضوء آفل لا يدوم ولفظ الأفول أيضا مستعار.
السادس: ((وظل زائل)) استعار لفظ الظل لما يأوي إليه الإنسان من نعيمها فيستظل به من حرارة بؤسها وظاهر كونه زائلاً.
السابع: كونه ((سناداً مائلاً)) استعار أيضا للفظ السناد فيما يعتمد الغافلون عليه من قيناتها وخيراتها التي لا أصل لها ولا ثبات بل هي ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾[4] وذكر الميل ترشيح للاتسعارة.
الثامن: كونها تغر الناس بضوءها وظلها وبهجة منظرها إلى غاية أن يستأنس بها من كان بعقله نافراً عنها، ويطمئن إليها من كان بمقتضى فطرته منكراً لها، حتى إذا كان ذلك منه طوعا لها فعلت به أفعال العدو الخدوع ونسب إليها من الأفعال أموراً:
احدها: ((قمصها بالأرجل)): واستعار لفظ القمص؛ لامتناعها على الإنسان حين حضور أجله كأنها تدفعه برجليها مولية عنه كما تفعل الدابة ورشح بذكر الأجل وانما جمع لاعتبار اليدين مع الرجلين وذكره بلفظ الرجلين لأن القمص إليها أنسب.
الثاني: ((قنصها له بأحبلها)): وهو كناية عن تمكن حبائل محبتها والهيئات الرديئة المكتسبة منها في عنق نفسه؛ كناية بالمستعار.
الثالث: كونها ((أقصدت له بأسهمها)): واستعار لفظ الأسهم للأمراض وأسباب الموت، واقصادها كناية عن إصابتها بالمستعار لأوصاف الرامي تنزيلا للدنيا منزلته.
الرابع: كونها ((أعقلته حبال المنية)): وحبالها استعارة لما تجذب له إلى الموت من سائر أسبابه أيضاً وكذلك لفظ القائد استعارة كنى بها من انسياق المريض في حبال مرضه الحاصل فيها إلى الأمور المذكور من ضنك المضطجع وهو القبر ووحشة المرجع وهو إشارة إلى ما تجده النفوس الجاهلة عند رجوعها من وحشة فراق ما كان محبوبا لها في الدنيا وما كانت الفتنة من مال وأهل وولد وهي استعارات لأوصاف الصائد تنزيلا للدنيا منزلته.
((ومعاينة المحل)): أي مشاهدة الآخرة التي هي محل الجزاء، ((وثواب العمل)): أي جزاءه من خير أو شرا[5])([6]).

الهوامش:
[1] في شرح نهج ابن ميثم البحراني ونهج الشيخ محمد عبده (يَعْقُبُ السَّلَفُ).
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 107-108/ خطبة رقم 83، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 134-136/ خطبة رقم 82، وفي نهج البلاغة لاين ميثم 2: 230-235/ خطبة رقم 80، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 143-146.
[3] شرح الألفاظ الغريبة لصبحي الصالح: 588 – 590.
[4] إبراهيم: 26.
[5] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 236- 237/ في شرح الخطبة رقم 80.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 54-59.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2773 Seconds