من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «ُيُجيبُ دَعوَةَ مَن يَدعوهُ» - الفعل: يدعوه

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام قوله: «ُيُجيبُ دَعوَةَ مَن يَدعوهُ» - الفعل: يدعوه

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-02-2023

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي: «ُيُجيبُ دَعوَةَ مَن يَدعوهُ»

يَدْعُوهُ، يُدْعَى
تدلُّ مادَّة «دعا» في اللُّغة على الطَّلب، والرَّغبة، والمسألة، والسَّوق، والجمع. جاء في (العين)  : «والادِّعاء في الحرب: الاعتزاء. ومنه التَّداعي، تقول: إليَّ أَنا فلان...والادِّعاء أَنْ تدَّعي حقًّا لك ولغيرك، يُقال: ادَّعى حقا أَو باطلا. والتَّداعي: أَنْ يدعو القوم بعضهم بعضا... والدَّاعية: صريخ الخيل في الحروب... وقوله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)[1]، يُقال: ليس هو الدُّعاء، ولكن دعوتها إيَّاهم: ما تفعل بهم من الأَفاعيل. يعني: نار جهنَّم. ويُقال: تداعى عليهم العدو من كلِّ جانبٍ: أَقبل. وتداعَتِ الحيطانُ إذا انقاضَّتْ وتَفَرَّزَتْ... وفلانٌ داعي قومٍ وداعية قومٍ: يدعو إلى بيعتهم دعوة»[2].
وجاء في (الصِّحاح في اللُّغة): «الدَّعْوَةُ إلى الطَّعام بالفتح. يُقال: كنَّا في دَعْوَةِ فلان ومَدْعاةِ فلان، وهو في الأَصل مصدرٌ، يريدون الدُّعَاءَ إلى الطَّعام. والدِّعْوَةُ بالكسر في النَّسب... ودعوت فلانا، أَيْ: صِحْتُ به واسْتَدْعَيْتُهُ، ودَعَوْتُ الله له وعليه دُعاءً»[3].
وقال الرَّاغب: « الدُّعَاء كالنّداء، إلاَّ أَنَّ النِّداء قد يقال بيا، أَو أَيا، ونحو ذلك من غير أَنْ يضمَّ إليه الاسم، والدُّعَاء لا يكاد يقال إلاَّ إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلانُ، وقد يستعمل كُلُّ واحد منهما موضع الآخر. قال تعالى: (كَمَثــَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة: 171]، ويستعمل استعمال التَّسمية، نحو: دَعَوْتُ ابني زيداً، أَيْ: سمَّيته... ودَعَوْتَهُ: إذا سأَلته، وإذا استغثته، قال تعالى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) [البقرة: 68]... والدُّعاءُ إلى الشَّيء: الحثُّ على قصده (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]... والدَّعْوَى: الادِّعاء، قال: (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) [الأعراف: 5]، والدَّعْوَى: الدُّعاء، قال: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10]»[4].
ودعوتُ الله أَدْعُوهُ دُعَاءً: ابتهلت إليه بالسُّؤال، ورغبت فيما عنده من الخير، ودَعَوْتُ زيداً ناديته، وطلبت إقباله، ودَعَا المؤذن النَّاس إلى الصَّلاة؛ فهو دَاعِي اللهِ، والجمع، ودَعَوْتُ الولد زيداً وبزيدٍ: سمَّيته بهذا الاسم، والدِّعْوَةُ بالكسر في النِّسبة، يُقال: دَعَوْتُهُ بابن زيد، وادَّعَيْتُ الشَّيء: تمنَّيته وطلبته لنفسي، وتَدَاعَى: البنيان: تصدَّع من جوانبه، وآذن بالسُّقوط والانهدام، وتَدَاعَى الكثيب من الرمل: إذا هيل فانهال، وتَدَاعَى النَّاس على فلان: تألَّبوا عليه، وتَدَاعَوا بالأَلقاب: دعا بعضهم بعضاً بذلك [5]. والدُّعاءُ: الرَّغْبَةُ إلى الله تعالى، دَعا دُعاءً ودَعْوَى، وتَدَاعَوْا عليه: تَجَمَّعُوا. ودَعاهُ: ساقَهُ. والنبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: داعِي اللهِ، ويُطْلَقُ على المُؤَذِّنِ، وتَداعَى العَدُوُّ: أَقْبَلَ [6].
وقد جاء هذا الفعل «دَعَا» مرَّتين في الخطبة، ورد في المرَّة الأُولى بمعنى العبادة المعروفة، وهو أَنْ يتوجَّه العبد إلى خالقه، ويطلب منه قضاء حاجاته[7]، نحو قوله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ : (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)[8]. أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) لبيان صفة من صفات الله ــ تبارك وتعالى ــ وهي المجيب، فهو ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ يجيب دعاء مَنْ يدعوه؛ إذ قال (عليه السلام): «يُجيْبُ دَعْوَةَ مِنْ يَدْعُوهُ»، فمراد أَمير المؤمنين (عليه السلام) : أَنَّ إجابة الدُّعاء من الله ــ تبارك وتعالى ــ لعباده مستمرَّة ومتجدِّدة باستمرار وجود الدَّاعي، فما زال هناك داعٍ، فهو ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ يجيب دعوته.

والدُّعاء موجَّهٌ إلى السَّميع البصير، فهو يصدر عن العبد إلى ربه، أَو من رتبة أَدنى إلى رتبة أَعلى من رتبة الدَّاعي أَو الطَّالب، فالدُّعاء «هو طلب المراد من الغير؛ شَرْطَ أَنْ يكون المطلوب منه فوق الطَّالب في الرُّتبة، ولابدَّ من اعتبار الرتبة ليتميُّز عن السُّؤال، وإلاَّ فالسُّؤال أَيضاً طلب المراد من الغير»[9].
وفُرِّق بين (الدعاء) و(السؤال) من ناحية الرُّتبة، فهما متساويان من ناحية الطَّلب من الغير، ولكنَّ وجه الاختلاف بينهما هو الرُّتبة؛ فالدُّعاء لا يكون إلاَّ في الطَّلب من الرُّتبة الأَعلى من رتبة الطَّلب. أَمَّا السُّؤال فيكون بين شخصين متساويين في الرُّتبة كأَنْ يكون بين الأَخ وأَخيه، والصَّديق وصديقه، والدُّعاء يتطلَّب اسماً يُدعى به[10].
والدُّعاء كما يقول د. حسن منديل: «طقوس روحيَّة؛ ذلك أَنــَّه مناجاة بين العبد وربِّه، إذ يجد الإنسان (المتكلِّم ــ المرسل) ربَّه مع حاجاته في حالة نفسيَّة خاصَّة، حالة ضعف، وبثِّ الهموم، وفتح القلوب، وهي الحالة الطبيعيَّة للإنسان المخلوق المحتاج إلى خالقه، فهو اعتراف بالعبوديَّة، وبهذا تكون لغة الدُّعاء خاصَّة بخصوص الوضع النفسيّ للإنسان (المرسل)، ونوع (المتلقّي) الخالق، فالعمليَّة روحيَّة خالصة»[11].
أَمَّا المرَّة الثــَّانية التي ورد فيها الفعل «دَعَا» في الخطبة، فقد جاء موافقاً دلالته اللُّغوية، أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) لبيان موقف من مواقف يوم القيامة، يوم يحشر الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ العباد، ويسوقهم إلى الموقف؛ لإظهار أَعمالهم للخلائق؛ إذ قال (عليه السلام): «يُدْعَى بِحَشْرٍ وَنـُشُوْرٍ».

و«يُدعى» فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الأَلف، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) عائد إلى الإنسان، و«بحشر» الباء حرف جرٍّ، و(حشر) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، و«ونشور» الواو حرف عطف، و(نشور) اسم معطوف مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره. وجملة (يُدْعى بحشرٍ ونـُشُور) معطوفة على جملة (فينشر في قبره).
وبيَّن أَبو هلال العسكريّ (الحشر) بقوله: «الحشر هو الجمع مع السَّوق، والشَّاهد قوله تعالى: (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين) [12]، أَيْ: ابعث مَنْ يجمع السحرة ويسوقهم إليك، ومنه يوم الحشر؛ لأَنَّ الخلق يُجمعون فيه، ويُساقون إلى الموقف، وقال صاحب المفصَّل: لا يكون الحشر إلاَّ في المكروه، وليس كما قال؛ لأَنَّ الله تعالى يقول: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[13]...»[14].
وبيَّن معنى (النُّشور) بقوله: «اسم لظهور المبعوثين، وظهور أَعمالهم للخلائق، ومنه قولك: نشرت اسمك، ونشرت فضيلة فلان، إلاَّ أَنــَّه قيل: أَنشرَ اللهُ الموتى بالأَلف، ونشرت الفضيلة والثــَّوب للفرق بين المعنيين»[15].
ولعلَّ معترضاً يعترض، فيقول: إنَّ الفعل (يُدعى) آخره أَلف، والخطبة المُوْنِقَة ــ محلُّ البحث ــ هي خطبة خالية من حرف الأَلف، والفعل (يُدعى) يقدح بهذا الأَمر، فأَقول: إنَّ الفعل (يُدعى) وإنْ كان آخره الأَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الواو، فتقول: دعا، يدعو، دعوةً.
والقول نفسه يُقال مع الفعل (قوَّى) ــ وسيأْتي الكلام عليه ــ، إذ قال (عليه السلام): «وقَوَّى بِهِ حُجَّتَهُ»، فالفعل (قوَّى) وإنْ كان آخره أَلفاً، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن ياء، فتقول: قوى يقوى تقويةً، فوجود هذه الأَلف لا يقدح بالخطبة، كونها خالية من الأَلف.
والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (يسعى) ــ وسيأْتي الكلام عليه ــ، إذ قال (عليه السلام): «يَسْعَى فِيْ جِسْمِهِ دُوْدُ قَبْرِهِ»، فالفعل (يسعى) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: سَعَى يَسْعَى سَعْياً.
والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (تولَّى) ــ وسيأْتي الكلام عليه ــ، إذ قال عليه السلام: «وَتَوَلّى لِفَصْلٍ عِنْدَ رَبٍّ قَدِيْرٍ»، فالفعل (تولَّى) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: تولَّى يتولَّى تولية وتولَّياً.
والقول نفسُهُ يقال مع الفعل (يُسقى) ــ وسيأْتي الكلام عليه ــ، إذ قال (عليه السلام): «يُسْقَى شُرْبَة مِنْ حَمِيْمٍ»، فالفعل (يُسقى) آخره أَلف، إلاَّ أَنَّ هذه الأَلف ليست أَصليَّة، بل هي منقلبة عن الياء، فتقول: سقى يسقي سَقْياً وسِقَايَةً»[16].

 الهوامش:
[1]. المعارج: 17.
[2]. العين 1/132.
[3]. الصحاح في اللغة 1/206.
[4]. مفردات ألفاظ القرآن: 315 و316.
[5]. ينظر: المصباح المنير: 3/228.
[6]. ينظر: القاموس المحيط: 3/419. وتهذيب اللغة: 1/347 و348، ومعجم مقاييس اللغة: 2/229، ولسان العرب: 14/257، وتاج العروس: 1/8381.
[7]. ينظر: مجمع البيان: 6/501، وبصائر ذوي التمييز: 2/600.
[8]. الزمر: 8.
[9]. شرح الأُصول الخمسة: 485.
[10]. ينظر: أسماء الله الحسنى (ابن القيم): 38، وبصائر ذوي التمييز: 2/60.
[11]. الجانب الروحي في اللغة العربية: 74.
[12]. الشعراء: 36.
[13]. مريم: 85.
[14]. الفروق اللغوية: 117.
[15]. المصدر نفسه: 222.
[16] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 116-121.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2801 Seconds