بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
فإن سياسة الإمام علي عليه السلام العسكرية فيمكن حصرها بأربعة أمور:
1ـ علاقة الخليفة أو القائد العام بأمراء الجيوش.
2ـ علاقة أمراء الجيوش بالجند.
3ـ الطلائع والعيون.
4ـ الصفات التي ينبغي للجندي أن يتحلى بها.
1ـ علاقة الخليفة بأمراء الجيش:
يبدو أن علاقة ولي الأمر أو الخليفة بقادة الجند تنبني على تبادل الحقوق، في فكر علي عليه السلام الذي يرى ان من حق القادة الاطلاع على جميع أسرار الدولة العسكرية والأمنية، الا فيما يختص بحرب أو يتعلق بحكم من الضروري كتمانه حتى حينه، كما أن على الخليفة أو من يقوم مقامه ان لا يفضل قائداً على اخر في رتبته الا بما يمتاز به من بلاء ويلتزم أيضاً بأداء جميع حقوقهم المالية والقانونية كاملة، فإذا ما استوفوا كل ذلك فمن حق الخليفة عليهم «الطاعة، وأن لا ينكصوا عن دعوة ولا يفرطوا في صلاح وان يخوضوا الغمرات إلى الحق»[1].
2ـ علاقة أمراء الجيوش بالجند:
من واجب أمير الجيوش ـ في فكر علي عليه السلام ـ أن يراعي راحة جنده ولا يرهقهم بالقيام بمجهودات شاقة تحول بينهم وبين تأدية الواجب على أتم وجه، ففي أثناء سيرهم نحو معركة ما أو لإخماد فتنة في اقليم ما، يجب عليه ان يختار الاوقات المناسبة، ففي وصيته لأحد أمراء جيوشه يقول «لا تقاتلن الا من قاتلك وسر البردين، وغوّر بالناس ورفه في السير، ولا تسر أول الليل، فإن الله جعلة سكناً، وقدره مقاما، فأرح فيه بدنك وروّح عن ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر، أو حين ينفجر الفجر، فسر على بركة الله»[2].
فالراحة البدنية والترويح عن الجنود، تجعلهم في حالة نفسية مرتفعة أثناء الحرب، ولكن ليس معنى ذلك استخدام الليونة التي تؤدي بالجندي إلى التهالك على ملذات الدنيا ومن ثم الانهيار، فعلي عليه السلام يرى ان من مميزات رجل الحرب ان يتحمل خشونة العيش وصعوبة الحياة[3]، والتعود على البعد عن الاهل، فكان إذا شيع جيشاً لحرب أو حشر جنداً في معسكر استعداداً لحرب، يوصيهم من ضمن نصائحه بقوله «اعذبوا عن النساء ما استطعتم»[4]. إذن فراحة الجنود التي يرمي علي عليه السلام إليها، هي الاطمئنان النفسي والراحة الجسدية المبنيتان على الرأفة والرحمة بجانب عدم التهالك على الشهوات المادية تهالكاً يؤدي بالجندي إلى الانهيار.
وعن علاقة القائد بجنده حين ملاقاة العدو، يرى علي عليه السلام، ان من واجبه ان ينظم صفوفه باتخاذه الموقف الوسط من جنده ويضبط نفسه، ويكبح جماح حماسه باستخدام العقل، فلا يدنو من عدوه «دنو من يريد ان ينشب الحرب ولا (يتباعد)عنهم تباعد من يهاب البأس»[5]، ولا يغامر بالدخول مع العدو في حرب حتى يتلقى أمر القائد العام أو الخليفة[6]، أما إذا اضطره العدو لذلك، فمن واجبه ـ إيثاراً للسلم ـ وحفاظاً على الأرواح.
ـ أن يدعوهم لما فيه خير وأمن البلاد والعباد، ولا يلجأ إلى الحرب إلا بعد أن يستنفذ كل ما لديه من أعذار سلمية[7]، لأن سلامة أرواح الناس ـ عند علي عليه السلام ـ فوق كل اعتبار، ما لم يتعارض ذلك مع الغاية النبيلة المتمثلة في احقاق الحق وتقوية دعائم الدين، فالقائد بالنسبة لجنوده أبٌ رحيم[8]، وبالنسبة لأعدائه داعية سلام. أما الحرب فهي العلاج الأخير.)[9].
الهوامش:
[1] رسائل 50، فقرة 3. بتصرف في النص بتحويل تاء المخاطبين إلى ياء المضارعة.
[2] رسائل 12، وسر البردين: أي وقت برودة الأرض والهواء من حر النهار بمعنى أن السير يكون إما في الصباح أو في العصر، وغوّر بالناس: أي أنزل بهم وقت القائلة في منتصف النهار حين يشتد الحر، ورفه: أي هو ن ولا تتعب نفسك ولا جندك ولا دابتك، وينبطح: أي ينبسط وهو مجاز عن استحكام الوقت بعد مضي مدة منه أو بقاء مدة منه.
[3] راجع مقولة علي عليه السلام في ذلك الشأن ضمن: رسائل 45 الفقرة الثالثة.
[4] حكم 266. ومعناها كما يقول الشريف الرضي: اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلب بهن وامتنعوا عن المقاربة لهن، لأن ذلك يفت في عضد الحمية، ويقدح في معاقد العزيمة.
[5] رسائل 12.
[6] المصدر السابق نفسه.
[7] المصد السابق نفسه.
[8] راجع رسائل 53، الفقرة 16.
[9] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 321-324.