من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: الأجْـرُ

مقالات وبحوث

من ألفاظ البيع والشراء في نهج البلاغة: الأجْـرُ

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-04-2023

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

اما بعد:
جاء هذا اللفظ في اثنين وعشرين موضعاً ليدل على معنيين  
     1-الأجرُ الحقيقي (المادي): جاء الأجر الحقيقي المادي مرة واحدة مصدرا منصوبا مفعولا به في كتاب الامام (عليه السلام) لقثُّم بن العباس* وهو عامله على مكة: «وَمُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِن أَجْراً، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد}، فَالْعَاكِفُ: الْمُقيِمُ بِهِ، وَالْبَادِي: الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِه»[1]. وهو ـ كما نرى ـ نكرة، وتنكيره يدل على أنَّه أجر غير معين نوعه، ولا مقداره فقد يكون كثيرا، وقد يكون قليلاً، بحسب نوع المسكن ونظافته والخدمات المقدمة للسَّاكن فيه، وقد يكون بالعملة او بغيرها مأكلاً أو ملبساً أو ما شابه ذلك.  ومن الملاحظ أنَّ الفعل (مُرَّ)  فعل الأمر من (أمر)  فقد جاء عن العرب تقديمهم الواو أو الفاء عليه (وأمر)  بالهمز؛ لكنَّ الإمام (عليه السلام)  هنا استعملها مخففة بدون همزة (ومُر)  ؛ وتفسير ذلك:  إنَّ ما يتركه الأثر الصَّوتي،  فالنبر في الهمزة أثره كبير له ثقل وشدة ويوحي بضرورة التمسك والالتزام والأمر بالمعروف،  أمَّا في هذا الكتاب لا نجد ذلك ؛ بل نجد خطابه لأهل مكة فيه لين وتراخي ؛ للحصول على استجابة منهم بألاَّ يأخذوا أجرًا من الساكنين[2]،  وفي هذا دلالة على أنَّ الإمام (عليه السلام)  كان يميل الى التخفيف في الهمز. 

2- الأجر المجازي: ما يدل على الأجر المجازي، ويعني به الجزاء على العمل فإن كان صالحا فهو ثوابا وهو الاكثر في النهج، وإن كان غير صالح فهو الإثم، ورد (مصدراً واسماً للمفعول)، ومعروفا مقداره كـ(أجر المتواضعين)  وغير معروف كـ(اجرك)  واستعمل معه الإمام (عليه السلام)  ثلاثة أفعال هي:  جاء الفعل الماضي من مادة (أجرَ)  ذلك في حديثه قائلا: «..، فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِىءَ،  وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ»[3]. وجاء مسبوقاً باسم التفضيل مجرورًا بلام الاستحقاق ومضافا لكاف الخطاب في قوله لعماله الجباة على الخراج في بيان تعليله للآداب التي وصَّاهم بها عند تحصيلهم له قائلاً: « لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (عليه السلام)  فَإِنَّ ذلِكَ أَعْظَمُ لاِجْرِكَ،  وَأَقْرَبُ لِرُشْدِكَ،  إِنْ شَاءَ اللهُ» [4]  (أعظم لأجرك)  صيغة محولة من (أعظم أجرا لك)  وعُدِل اليها ؛ لأنَّها أكثر تأثيرًا في النَفس من أن تقال مجهولة (أجرا)  ثم تردها على المخاطب بـ (لك).  واستعمل معه الفعل (أعطى) الذي يتعدى لمفعولين في كتابه لزياد بن ابيه: «أَتَرْجُوا أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِين !»[5]، وهو استفهام إنكاري، أراد به التهكم، فالمفعول الأول (الكاف) والثاني (أجرَ) مضافاً الى المتواضعين، ويعني: ثواب المتواضعين، ومن وصيته لولده الحسن في بعض اسباب تأخير الإجابة «وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الاْجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لاِجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ»[6].
أي: لإثابة السائل؛ لأنَّ المصلحة توجب التأخير،  فوصَّى الإمام (عليه السلام)  الحسن (عليه السلام)  بالصَّبر وعدم اليأس ؛ بل الازدياد من الدُّعاء،  لأنَّ اللهَ يستجيب في الوقت المناسب[7]،  وجاء المصدر (أجراً) مُنَكَّراً،  وذلك في قوله من خطبة له في ذكر الملاحم قائلاً: «ذاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّه ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ المُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي!»[8].
  وذلك إن كان المال حراما، ولا يعطى على الوجه المأمور به؛ بل للأغراض الفاسدة، والرياء، والسمعة، أمَّا المحسن إليه فيأخذ المال ليسدَّ حاجته، ولا يلزمه البحث عن المَّال وحليته، فكان أعظم أجرا من السائل.  وخالف شرَّاحُ النَّهْج (ابن ابي الحديد والبحراني)  [9]، فقالوا: إنَّ فيه معنى آخر وهو إنَّ صاحبَ المالُ الحرامِ يصْرِفُه في أكثر الأحوال في الفَساد، فأخذُ الفقيرِ منه على وجه الصَدَّقة فوت عليه صرفه في القبائح[10].

   وجاء جمعه على زنة (فُعُول) مضافاً إلى الضمير (هم) وهو جمع الكثرة في قوله: «مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وَهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ!  قَدْ ـ وَاللهِ ـ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الاْمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ» [11]،  جاء الإمام (عليه السلام) بالقسم جامعاً بين (قد ولفظ الجلالة) وهو اسلوب إنفرد به.
  قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[12]،  وورد اسم المفعول مفرداً في قول الإمام (عليه السلام) وقد عزى فيه الأشعث بن قيس عن ابن له قائلا: «يَا أَشْعَثُ، إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ،  وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ» [13]. 
  وردت المقابلة بين (صَبَرت، جَزَعْت) و(أنتَ مأجور، أنتَ مأزور)، والمعنى: أنت مثاب، فحكم الله سينفذ شئت أم أبيت، فإن رضيت على بلائه كان لك الأجر والثواب.  وبين (مأجور) و(مأزور) سجع متوازٍ وطباقٍ وجناسٍ غير تام، وتتجلى من خلالهما الدَعوة في الصَبر على المُصيبة.  المقابلة بين (مأجورون على صلتها) و(مأزورون على قطيعتها) تتحقق الموازنة ايقاعا اساسه التناظر الموسيقي، لتضفي عليه روعة وبهاء. 
 ومن خلال الطباق بين (الأجر) و(الوزر) وبين (الصلة) (والقطيعة) أكد رغبته في مواصلتهم ومداراتهم؛ لتكون صلة الرحم مستلزمة للأجر في الآخرة [14]
   وجاء اسم المفعول مجموعا جمعا مذكرا سالما وردت مرة واحدة في النَّهْج، وذلك في كتابه الى عبد الله بن عباس عامله بالبصرة قائلا في سياق حديثه عن بني تميم: «وَإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً، وَقَرَابَةً خَاصَّةً، نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا،  وَمَأزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا»[15].
  نجد التوازن قد وقع بين لفظتي (مأجورون ومأزورون) التي أصلها موزورون من (الوزر)؛ اذ تحقق التوازن الصوتي بين اللفظين كلاهما، وبين (صلتها وقطيعتها)، فالأجر: جزاء العمل.. أجر يأجٌرُ، والمفعول مأجور.  والأجير: المستأجر.  والإجارة: «ما اعطيت من أجر في عملٍ.  وأجرت مملوكي إيجارا فهو مُؤجر» [16]. 
  قال ابن فارس: «الهمزة والجيم والراء اصلان يمكن الجمع بينهما بالمعنى، فالأول الكراء على العمل، والثاني جبر العظم الكسير.  فأما الكراء فالأجر والأجرة.  وكان الخليل يقول: الاجْر جزاء العمل، والفعل أجر يَأجُرُ أجرا، والمفعول مأجور.  والأجير: المستأجر» [17]،  ويقال:  آجرك الله على ما فعلت وانت مأجور عليه[18].
وهو: «الجزاء على العمل، والجمع أجور.  والإجارة: من أجر يأجِرُ، وهو ما اعطيت من أجر في عمل.  والأجرُ: الثًواب ؛...واجر الرجل:  تصدق وطلب الأجر»[19].
والأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان او أخرويا، قال تعالى { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[20]،  والأجرة في الثواب الدنيوي،  وجمعه أجور.

 ومنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[21].
وقد يُكَّنى عن المُهور [22].
 ويختلف الثَّواب عن الأجْرِ في الإصطلاح الإسلامي، فالثواب: الجزاء عن كل عمل ولكن يغلب عليه في الخير، أمَّا الأجر هو جزاء العمل الصالح فقط في الدُّنيا والآخرة[23].)[24].
  إن الإسلام بفرضه مبدأ القرض بين المسلمين أوجد أرضية صالحة للاستثمار، وبالأخص ممن لا يمتلكون من الأموال المقدار الذي يستثمرونه، وسيؤدي زيادة القدرة الشرائية لطبقة الفقراء ويحسن الحالة الاقتصادية.)[25].
[1]* قُثَّم بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي كان أشبه الناس برسول الله، توَّلى نيابة المدينة في أيام الامام علي (عليه السلام) وشهد فتح سمرقند فاستشهد ودُفِن فيها ومازال ضرسيحه قائماً فيها. 

الهوامش:
(1) ظ: نهج البلاغة: ك67، 345.
[2] ظ: رسائل الإمام علي (عليه السلام): (اطروحة دكتوراه): رملة خضير: 29.
[3] نهج البلاغة: الحكم القصار: 373، 409.
[4] ك 25،  284.
[5] نهج البلاغة: ك 21،  281.
[6] ك 31، 297.
[7] ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  5 / 221.
[8] نهج البلاغة:  خ 187،  200
[9] ظ:  شرح نهج البلاغة:  ابن ابي الحديد:  13 / 97.
[10] ظ:  منهاج البراعة:  10 / 123.
[11] نهج البلاغة:  خ 182،  191.
[12] يونس / 72. 
[13] نهج البلاغة: الحكم القصار: 291، 398، والأشعث بن قيس رأس المنافقين في عهد الامام أحد ملوك كندة، ومن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
[14]  ظ:  في ظلال نهج البلاغة:  6 / 178.
[15] نهج البلاغة:  ك 18،  279.
[16] العين (مادة أجر):  6 / 173.
[17] مقاييس اللغة:  1 / 62.
[18] ظ:  أساس البلاغة:  1 / 7.
[19] لسان العرب (مادة أجر):  1 / 31.
[20] يونس / 72.
[21] النساء / 25.
[22] ظ:  المفردات في غريب القران:  1 / 12  وظ:  المصباح المنير:  5
[23] ظ:  التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القران:  عودة خليل:  388.
[24] ظ:  المعجم الاقتصادي الاسلامي:  356.
[25]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 139-145ز

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2564 Seconds