سياسية التصرف في موارد الدولة المالية في نهج البلاغة 5-العمال

مقالات وبحوث

سياسية التصرف في موارد الدولة المالية في نهج البلاغة 5-العمال

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-10-2023

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
نعني بالعمال أولئك الذين يباشرون جمع الزكاة وجباية الخراج، ومراقبة الأسواق، وقد اهتم الفرس قبل الإسلام بالخراج، فوضعوا له الديوان بعد ان مسحوا الأرض واحصوا الأنفس، وعرفوا ما يمكن جبايته من كل فرد[1]، وقد خصصوا رجالاً ذوي كفاءة لجمع الضرائب واشترطوا فيهم الرأفة بالعباد، والأمانة للمحافظة على ما يجبون من اموال[2]، ولما فتح المسلمون فارس، اقتبسوا ذلك النظام من الفرس[3]، فوضعوا على كل أرض ما يناسبها من خراج، وعلى كل إنسان لا يرغب في الدخول في الإسلام أن يدفع مقداراً معيناً من المال أُطلق عليه (الجزية). وقد وكلت جباية الأموال في بدايتها إلى الولاة وتقديراتهم[4]، ومن ثم اختص بها موظفون خاصون تحت إشراف الخليفة أو الوالي، اقتداء بعمل الرسول صلى الله عليه وآله[5]. ولعمال الخراج، وغيرهم من مراقبي الاسواق، أهمية كبيرة في فكر علي عليه السلام، لاتصالهم المباشر بالناس على مختلف طبقاتهم، هذا بالإضافة إلى اطلاعه الواسع في أحوال الفرس، والنظام المالي عندهم، وأساليبهم في فرض الضرائب، وذلك عن طريق احتكاكه[6]بهم، بمجالسته اياهم في مجتمع الكوفة، فأضاف ذلك رافداً ثريا إلى زاده الثقافي العميق الذي اكتسبه من الإسلام بمعاشرته الروحية للنبي صلى الله عليه وآله[7]. خاصة وان علياً عليه السلام قد كان يوصي ولاته بدراسة ماضي الأمم التي يتولون رعايتها، وما حدث عليها من عدل أو جور في ظل الحكومات المتعاقبة عليها[8]، حتى يتسنى لهم تفادي سخط الناس، مما يعني انه كان يعمل بذلك. وعليه فإن علمه الواسع بشرائع الإسلام واستلهامه أحوال الماضين من خلال قصص القرآن الكريم وعِبَره، بالإضافة إلى اطلاعه على أحوال العناصر الأجنبية في مجتمع الكوفة، منحه كل ذلك زاداً فكرياً في معرفة أحوال الناس وطبائعهم، وطرق التعامل معهم، فأتاح له بذلك اختطاط سياسة ترتكز على التعامل مع الجميع على أسس إنسانية عمادها الأخلاق، فكان اختياره للعمال نابعاً من تلك الأسس الإيمانية والاقتناع الفكري حين وضع شروط اختيارهم وصفاتهم، وكيفية التعامل معهم، لأنهم كما يقول «خزان الرعية، ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة»[9]. وأهم الشروط التي وضعها فيمن يتوخاه من رجال لهذا الجهاز المالي الدقيق هي:

الاعتماد على النزاهة في تعيين افراده، بالبعد عن المحاباة والأثر والوساطة[10] مع تجنب الاستجابة لأي فرد يلح على العمل في هذا الجهاز، لأن من يتهالك في الحصول على مثل هذه الوظيفة دون غيرهاـ في فكر علي عليه السلام ـ ليس الا لأن في طبعه «جماع من شعب الجور والخيانة»[11] ومحاولة الثراء على حساب الأمة. لذلك لا يصلح لمثل هذه الاعمال إلا «اهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح اعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً وأغلب في عواقب الأمور نظراً»[12]، لأن ارتواء نفوسهم وعمق تجربتهم ورسوخ أقدامهم في الإسلام، كل ذلك يجعلهم على فهم واسع لطبيعة الناس الذين سيتعاملون معهم، بالإضافة إلى ان التدين، وطيب العنصر، ومتانة الأخلاق من المزايا التي تردع صاحبها عن قبول الرشوة، والتعامي عن الحق، والجور على الناس.

أما الكيفية التي يجب على ولي الأمر التعامل بها مع أولئك الموظفين فإنها تتمثل ـ كما يراه علي عليه السلام ـ في منع نفوسهم من النظر إلى ما في أيدي الناس وتجنيبهم الاغراءات المادية التي تجعلهم عرضة للسقوط، وذلك بتوفير الرزق الكافي لهم «فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم»[13] عن الاختلاس والسرقة والنهب. وحتى إذا ما ارتكبوا خيانة اصبح ذلك «حجة عليهم»[14] في التنكيل بهم. ولكن العطاء المجزي ليس وحده كافيا، بل من واجب الدولة أن تتفقد أعمالهم ببث «العيون من أهل الصدق والوفاء»[15] لأن في شعورهم بالرقابة، رادع لهم لتفادي أي مسلك معوج يؤدي إلى العقاب)[16].

الهوامش
[1] راجع الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 4.
[2] راجع السابق ص 6.
[3] راجع: دانيل دينيث: الجزية في الإسلام ص 45 وما بعدها.
[4] راجع ابن أبي الحديد 2/42، 43، فقد جعل عمر بن الخطاب أبا هريرة عاملا على هجر واليمامة وأقاصي البحرين بالإضافة إلى جباية أموالها وكذلك كان استعماله لعمرو بن العاص على مصر.
[5] من ذلك استعماله صلى الله عليه وآله «خالد بن سعيد عاملاً على صدقات اليمن وقبل على صدقات مذحج»ابن الأثير  أسد الغابة 2/98.
[6] أشرنا إلى ذلك في ص 389 وما بعدها من هذا البحث.
[7] راجع قول علي عليه السلام في علاقته بالرسول صلى الله عليه وآله: خطب 240، فقرة 26، 27.
[8] راجع رسائل 53، فقرة 4، 38.
[9] رسائل 51.
[10] راجع رسائل 53، فقرة 21.
[11] المصدر السابق نفسه.
[12] المصدر السابق نفسه.
[13] رسائل 53، فقرة 21.
[14] المصدر السابق نفسه.
[15] المصدر السابق نفسه.
[16] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 349-352.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2401 Seconds