بقلم: السيد نبيل الحسني.
امتازت رؤية الإمام علي (عليه السلام) للسنن التاريخية بميزات عدة، ومنها أحاطته التامة بها منذ نبي الله آدم (عليه السلام) وإلى عصر النبوة وما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فضلا عن بيانه لأثار هذه السنن على الأمة ولاسيما الأثر السلوكي، قال عليه السلام:
«وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَهَزَمُوا بِالأُلُوفِ وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ»؟([1]).
فهذه النظرة المحيطة بالسنن التاريخية التي تهاوت بفعلها تلك الأمم فلم تبق منها سوى الأساطير هي في الواقع تصرخ بالقادم من الأجيال إلى الحذر من الوقوع في مهالك تلك الأمم حينما لم يراعوا قوانين السماء وما جاءت به الأنبياء من شرايع.
وفي شاهد آخر يقول:
«فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ E فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الأَحْوَالِ وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الأَمْثَالِ»([2]).
وفي شاهد آخر يقول:
«تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَافِي الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ، إِخْوَانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ، أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لاَ يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْلٍ، وَأَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ»([3]).
وهنا يتحدث عن حال العرب في الألف الأولى قبل بعث النبي المصطفى . أي ما بين موسى عليه السلام ورسول الله . وشمال أفريقيا مصر وما جاورها، وأهل مكة وما يحيط بها من مدن، كيف كان حالهم؟ وما هو دور السنن في رسم حياتهم؟.
أنهم كانوا مشتتين مفرقين حينما كانت ملوك الفرس في الشرق، وأباطرة الروم في الغرب، تتحكم بهم وتقبض على أنفاسهم وأرواحهم وتنهب خيراتهم، كانوا يزرعون ليأكل الأكاسرة والقياصرة بينما هم مدفوعون عن خضرتهم إلى منابت الشيّح ومهافي الريح (أي عنب الصحراء) ونكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين، أخوان دبرٍ ووبر (أي: تحت الخيام التي تصنع من شعر الإبل وهو الوبر) أذل الأمم داراً وأجدبهم قراراً.
ثم يمضي في بيان حال العرب قبل أن يمنّ الله عليهم بالحبيب المصطفى . وكيف يصبح حالهم بعد أن بعث فيهم رسول الله 2، فيقول:
«فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ الأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ»([4]).
.[5]
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: خطبة في تنزيه الله، ج 2، ص 108، خ 182.
([2]) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: الخطبة القاصعة، ج 13، ص 171.
([3]) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: خطب الإمام علي عليه السلام، ج 2، ص 153.
([4]) نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: الخطبة القاصعة، ج 2، ص 154. بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 14، ص 473. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 177.
[5] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : حركة التاريخ وسننه عند علي وفاطمة (عليهما السلام) ، السيد نبيل الحسني ، إصدار العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 مؤسسة الأعلمي لسنة 1435هـ - 2014 بتصرف وبعض الإضافة .