بقلم : السيد نبيل الحسني .
في المورد العاشر الذي يدافع فيه المفسر الآلوسي عن خصوم فاطمة (عليها السلام) ، في تفسير قوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ،فيقول :
(وانحراف مزاج رضا الزهراء[عليها السلام] كان من مقتضيات البشرية، وقد غضب موسى (عليه السلام) على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئاً).
أقول:
1- إنَّ مما لا ريب فيه بعد هذا العرض لأقوال الآلوسي ، أنه اتخذ من التغليط منهجاً في الكتابة، ومنه قوله في التغليط بين كون بضعة النبوة وصفوة الرسالة فاطمة (عليها السلام)، وكذا نبي الله موسى وهارون (عليهما السلام) لهم طبيعة بشرية وأن الغضب من الصفات الملازمة لهذه الطبيعة، ومن ثمَّ إفراغ هذا الغضب من آثاره الشرعية فمثلما غضبت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر كذلك غضب موسى على هارون(عليهما السلام)، أي: رفع الحكم الشرعي المرتبط بغضب فاطمة (عليها السلام).
وهذه ليست مغالطة، بل شبهات وتضليل في عقائد الناس ، وذلك:
إنّ الأنبياء بناءً على قول الآلوسي لا يغضبون لله تعالى، وإنما لمقتضيات الطبيعة النفسية لكونهم بشراً، وهذا خلاف ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في التلازم بين غضب الله تعالى وغضب أنبيائه ورسله (عليهم السلام)، فمنها قوله تعالى في بيان غضب موسى(عليه السلام) لله وشريعته بمخالفتهم له:
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [سورة طه/86].
2- أما غضب موسى على هارون(عليهما السلام) فليس لمخالفة هارون -والعياذ بالله- شريعة الله تعالى، وإنما لخوفه من أن يكون هارون ساكتاً عنهم بما فتنهم السامري ولم يلق بالحجة عليهم ، فلما تبين له أن هارون قد حذّرهم ونبههم من السامري وفتنته سكن عنه غضبه، وهو ما جاء جلياً في الآيات المباركة، قال تعالى:
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [سورة طه/92-94].
وقد نبّه القرآن الى جهاد هارون في بني إسرائيل لما تركهم موسى (عليه السلام) للميقات، فقال عز وجل:
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [سورة طه/90].
وهكذا كان جهاد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) في تحذير الأمة من الوقوع في الفتنة وتغيير مسار الشريعة والوقوع في التيه والهلاك في الدنيا والآخرة.
وذلك في نسقية المسار الذي بدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تحذير أمته من الفتن وفي مرات عدة ، وتنبيههم إلى ما هو أعظم من فتنة السامري.
فقد اخرج الترمذي (ت 279هـ) عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إنّ من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قال: من هي يا رسول الله؟ قال:
ما أنا عليه وأصحابي» [1].
ومما لا ريب فيه أن ذيل الحديث الشريف، هو موضوع مكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
بدليل:
إنَّ أوّل الفتن التي وقعت في الأمة هي بين الصحابة وما شجر بينهم؛ ولذا أجمع أعلام أهل السُنَّة والجماعة على عدم جواز الدخول فيما شجر بينهم، وذلك لتكفير بعضهم بعضاً، بل لما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في بيان ارتداد كثير منهم بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإحداثهم في شريعته، وهي حقيقة مرّة كَشَفها لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهر حالهم من بعده ومصيرهم في الآخرة، وهم يساقون بسياط من نار، فينادي خلفهم، قائلاً:
«يا رب أصحابي»، فيقال له (صلى الله عليه وآله وسلم):
«أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم):
«فأقول كما قال العبد الصالح:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}، فيقال:
أن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» [2].
وعليه:
فغضب البضعة النبوية(عليها السلام) كان لما هتك من حرمة شريعة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس كما يغالط الآلوسي وغيره في الشبهة الفكرية والعقدية المرتكزة على أن غضب بضعة النبوة فاطمة وموسى وهارون وغيرهم من الانبياء والأوصياء(عليهم السلام) هو من مقتضيات الطبيعة البشرية ، وذلك لإفراغ هذا الغضب من آثاره الشرعية في الدنيا والآخرة .
ومِنْ ثمَّ : لا يمكن دفع التوارث بين الأنبياء (عليهم السلام) في الأموال بعد إقرار القرآن والسُنّة واللغة بذلك ، كما لا يمكن دفع الهبة بينهم ، أو الوصية أو التولية أو النص بالخلافة ؛ إلاّ أن الحقيقة المرّة والتي لا مفرَّ منها ، هي :
تضافر الأمة على هضم فاطمة (عليها السلام) وقد تجلّت في دفاعهم عن خصومها والانتصار لهم ، وهو ما صرّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بعد أن واراها في الثرى ، فحوّل بوجهه إلى الروضة النبوية الشريفة ، فقال:
« السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه عَنِّي ، والسَّلَامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ وزَائِرَتِكَ والْبَائِتَةِ فِي الثَّرَى بِبُقْعَتِكَ...»[3] إلى أن يقول:
«وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ [عليَّ] وعَلَى هَضْمِهَا ، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ»[4] «فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا ، وستقول ، ويحكم الله ، وهو خير الحاكمين»[5] . [6]
الهوامش:
[1] سنن الترمذي: ج4 ص 135، مستدرك الحاكم: ج1 ص129.
[2] صحيح البخاري: ج5 ص 240، صحيح مسلم: ج8 ص 157.
[3] الكافي ، الكليني : ج1 ص458 ؛الأمالي ، الشيخ المفيد :ص283 ؛ نهج البلاغة ، الشريف الرضي : الخطبة رقم 202 .
[4] نهج البلاغة ، الشريف الرضي : الخطبة رقم : 202
[5] الأمالي ، الشيخ المفيد : ص282
[6] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقران والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : 225 / 228 ، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ، ط1 دار الوارث كربلاء - 2021م – مع بعض التصرف والإضافة- .