بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
إن أسس العلاقات الاجتماعية بين الحاكم والأمة في فكر الإمام علي عليه السلام تنحصر في نقطتين:
الأولى - بالنسبة إلى الحكومة والثانية- بالنسبة إلى المجتمع.
أـ إطاعة أولي الأمر، والامتثال لأوامر الحكومة ونواهيها فيما تسنه من نظم وقوانين تنظم العلاقات الاجتماعية بين مختلف الفئات، شريطة أن تفي الحكومة بكل التزاماتها تجاه الأمة، وفي هذا الصدد يقول علي عليه السلام متمثلاً ما لأولي الأمر من حقوق على المجتمع «أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم»[1] وهو بهذا يتمثل جميع الواجبات المفروضة على المجتمع تجاه الحكومة. إذ لا يمكن للحكومة ان تؤدي واجبها على أكمل وجه دون تجاوب من المحكومين، على أن تكون تلك الاستجابة متمشية مع الحق والشرع، وقد أدرج علي عليه السلام ذلك الشرط في كتابه إلى أهل مصر حين ولى الأشتر عليهم وذلك في قوله «أطيعوا أمره فيما يوافق الحق»[2] فطاعة أولي الأمر أو الحكومة مقرونة ـ في فكر علي عليه السلام ـ بالتزام الحكام العدل قولاً وفعلاً وفقا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «لا طاعة لمن لم يطع الله»[3].
ب ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يرى علي عليه السلام أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صميم واجبات كل فرد من أفراد الأمة وليس قصراً على الحكومة أو على فئة معينة، لذلك فمن واجب كل قادر ان يباشر بالإصلاح في مجتمعه قولاً وعملاً قدر استطاعته وبالأسلوب المتاح له وقد يتردد الفرد عن قول الحق خوف التنكيل أو البطش والغيلة، سواء أكان ذلك من لدن السلطة المتعسفة، أم من لدن أفراد متسلطين لهم وجاهتهم لدى السلطة، لكن علياً عليه السلام بمنطقة الثوري الحاسم لا يرى في التردد والسكوت والخوف أية جدوى «لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرـ من وجهة نظره ـ لا يقربان من أجل»[4] أي أن السكوت عن قول الحق والرضوخ للباطل لن يقدما أو يؤخرا أجل الإنسان المقدر له، ولأهمية ذينك العنصرين في فكر علي عليه السلام فقد عدهما من دعائم الجهاد على اعتبار انهما فرض كفاية كما في قوله «الجهاد على أربع شعب، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنان الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر، أرغم أنوف الكافرين...»[5]وقد اعتبرهما من الجهاد لكونهما تضحية بالنسبة للإنسان في بحياته وبماله، إذا باشرهما على أصولهما، خاصة في المجتمعات الفاسدة، لأنهما يمسان القاعدة العريضة بين أبناء المجتمع، ويؤثران في تصرفات الناس وأخلاقهم «فالأمر بالمعروف مصلحة للعوام والنهي عن المنكر ردع للسفهاء»[6] وعلى ذلك فإن تركهما أو التغاضي عنهما يعني الاختلال في بنية المجتمع بانتشار الظلم واستفحال الفساد، وهو ما يتنافى ومبادئ الإسلام التي أرادت للإنسان الكرامة في مجتمع متضامن يصون حقوق جميع الناس، وعلي عليه السلام يصر على زرع هذين المبدأين في نفوس الجميع لأنه يدرك تماماً ان في تركهما انهياراً حتمياً في قيم المجتمع خضوعاً للفرد واستسلامه للواقع بكل سيئاته مما يتيح للانتهازيين والظلمة التسلق على اكتاف المستضعفين وهضم حقوقهم، فتنقلب أوضاع المجتمع وتتدهور قيمه وتعمه الفوضى. يقول علي عليه السلام «ان أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكرا، قلب فجعل اعلاه اسفله واسفله اعلاه»[7]فكلمة الحق الصادقة والنصيحة المخلصة من أهم الأسس التي تنبني عليها شخصية الفرد في فكر عليg، وأفضل النصح وأعزه وأقومه ـ عنده ـ يتجسد في «كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائرٍ»[8].
فإذا ما التزمت الحكومة بواجباتها تجاه الأمة وأدّت الأمة ما عليها من واجبات «صلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة»[9] ويبدو من نصوص نهج البلاغة ان حكومة عليg قد ادت كل ما عليها من التزامات تجاه الأمة، إلا أن الأمة لم تؤد التزاماتها، فانقلب الوضع كما يقول عليg «لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي»[10] مما يعني في طياته، انحدار المجتمع الإسلامي في هاوية التمزق، ولكن قبل الدخول في وصف الحالة الاجتماعية في مجتمع الكوفة ـ من منظور علي عليه السلام ـ يجدر بنا التعرف على الشرائح التي تكون ذلك المجتمع منها.)[11].
الهوامش:
[1] خطب 34 الفقرة الأخيرة.
[2] رسائل 38 الفقرة الثانية.
[3] مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/213.
[4] حكم، 380.
[5] حكم، 31، والمواطن: المواضع، ويقصد بها في السياق مواطن القتال في سبيل الحق والشنآن ـ البغض.
[6] حكم، 251.
[7] حكم،381.
[8] حكم، 380.
[9] خطب 26 الفقرة الثالثة.
[10] خطب، 96، الفقرة الأولى.
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 368-371.