بقلم: الباحثة زهراء حسين جعفر
الحمدُ لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء، وجعله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
ذكر أصحاب الغريب حديث الإمام (عليه السلام): ((ويلمه كيلاً بغير ثمن لو أن له وعاء))([1]) قال ابن منظور في أصل كلمة (ويلمه): ((أَصْلُ وَيْلِمِّه وَيْلُ أُمِّه، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وكَسَروا لامَ وَيْل إِتْباعاً لِكَسْرَةِ الْمِيمِ،...))([2]). وهناك اراء عديدة في اصل (ويلمه)([3])، وإن تعددت الآراء، فلا يعد هذا مأخذا عليهم بقدر ما يفصح عن الدلالة اللغوية للكلمة.
وقوله عليه السلام كيلا بغير ثمن، قال الجوهري: الكَيْلُ: المِكيالُ. والكَيْلُ: مصدرُ كلْتُ الطعامَ كَيْلاً ومَكالاً...، والاسم الكيلَةُ، بالكسر. يقال: إنَّه لحَسَنُ الكيلَةِ، ([4]). ويقال: ((...، كال الحُبُوبَ وغيرَها: حَدَّد مقدارَها بواسطة مكيال مُعَدّ لذلك كالصّاع ونحوه))([5]).
كما في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}([6]). فقوله (عليه السلام) (كيلا بغير ثمن) يريد بذلك أن يَكيِل العُلوم الْجَمَّة بلا عوض إلا إنّه لا يصادف واعيا للعلم وحاملا له بحق ([7])، لو وجد عقولاً عاقلة واعية لأباح من علومه بلا عوض، وهذا مثل قوله (عليه السلام): ((إن بين جنبي علما جما لو أجد له حملة))([8])، فلاشك أنّه (عليه السلام) ربيب النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه وهو القائل: ((إنَّ من وراء قافٍ عالم لا يصل اليه أحد غيري...))([9]).
فحوى كلامه عليه السلام انه لا يجد من يعي هذه العلوم، لو وَجَدَ له حاملا، أو وَجَدَ له نفوسا لأباح من علومه. إذ ليس على الإمامِ إلاَّ ما حُمِّل مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ، الإبْلاَغُ في المَوْعِظَةِ، والْاجْتِهادُ في النَّصِيحَةِ، وَالإِحْيَاء لِلْسُّنَّةِ، وإِقَامَةُ الْحُدوُدِ عَلى مُسْتَحِقِّيِهَا ([10]).
ومن روائع كلامه عدل باللفظة في التركيب عن وضعها اللغوي، فقد استعمل لفظة كيلا مجازا، وهذا من غريب السياق في كلامه، فالكيل في اللغة: مكيال الحُبُوبَ وغيرَها وهذا من باب تطور الدلالة، فقد اتسعت دلالتها بعدما كانت للمحسوسات فقد استعملها الإمام عليه السلام للمدركات)([11]).
الهوامش:
([1]) غريب الحديث: ابن قتيبة: 2/109، الفائق في غريب الحديث: 4/86، النهاية في غريب الحديث: 5/236، وينظر: لسان العرب: 11/740، وغريب الحديث في بحار الانوار: 4/ 111،4/1 .
([2]) لسان العرب: (أمم) 12/31، وينظر (وَلَمَ): 12/643، (وي) 15/418، وتاج العروس: (ويل)31/106)، القاموس المحيط: (ويل)1/ 1069.
([3]) ينظر: الخصائص: 3/152، ومنهاج البراعة: 5/184-185، والمعجم الوسيط: (ويل) 2/1061، الأصول في النحو: 3/350.
([4]) الصحاح: (كيل)5/1814، وينظر: المخصص: 3/440.
([5]) معجم اللغة العربية المعاصرة: ( ك ي ل)3/1979.
([6]) سورة الأنعام: 152.
([7]) ينظر: الفائق في غريب الحديث: 5/86، والنهاية في غريب الحديث: 5/236، نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد: 6/133.
([8]) نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد: 6/134.
([9]) الولاية التكوينية حقيقتها ومظاهرها، علي حمود العبادي: 175-176.
([10]) في ظلال نهج البلاغة: 2/114.
([11]) مزيد من الاطلاع ينظر: كلام الإمام علي عليه السلام في كتب غريب الحديث/دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية، تأليف زهراء حسين جعفر، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، 134-136.