بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
روي أن صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له: همام، كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم.
فتثاقل عن جوابه، ثم قال عليه السلام له: يا همام اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ}([1]).
فلم يقنع همام بهذا ([2]) القول حتى عَزَمَ عليه، قال: فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، وصلّى على النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال عليه السلام:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةٌ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ ، فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَ لَوْلَا الْأَجَلُ الَّذِي (كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ)([3]) لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظْمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَادُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذِّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَاجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسـَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا، أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتَّلُوَنَهَا تَرْتِيلاً ، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقُ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ....
قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟
فقال له قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟
فقال عليه السلام: وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ، وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزَهُ، فَمَهْلاً لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ([4])!
شرح الألفاظ الغريبة:
ملبسهم الاقتصاد: يلبسون الثياب بين بين لا هي بالثمينة جداً ولا الرخيصة جداً؛ غضوا أبصارهم: خفضوها وغمضوها: نزلت أنفسهم منهم بالبلاء: أي أنهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في الله، كأنهم كانوا في رضاء لا يجزعون ولا يهنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا في خوف الله وحذر النقمة، كأنهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون؛ أربحت التجارة: أفادت ربحاً: الترتيل: التبيين والإيضاح؛ استثار الساكن: هيجه، وقارئ القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل: زفير النار: صوت توقدها: شهيق النار: الشديد من زفيرها كأنة تردّد البكاء؛ حانون على أوساطهم: من حَنَيْتَ العود، عطفته، يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصلاة؛ مفترشون لجباههم: باسطون لها على الأرض؛ فكاك الرقاب: خلاصها([5])!
الشرح:
من هاهنا اختلفت نسخ النهج فكثير منها تكون هذه الخطبة فيها أول المجلد الثاني منه بعد الخطبة المسماة بالقاصعة، ويكون عقيب كلامه للبرج بن مسهر قوله: ومن خطبة له عليه السلام: الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد؛ وكثير من النسخ تكون هذه الخطبة فيها متصلة بكلامه عليه السلام للبرج بن مسهر ويتأخر تلك الخطبة فيكون بعد قوله : ومن كلام له عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله ويتصل ذلك إلى تمام الخطبة المسماة بالقاصعة، ثم يليه قوله: باب المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله، وعليه جماعة الشارحين كالإمام قطب الدين أبي الحسن الكيدري والفاضل عبد الحميد بن أبي الحديد، ووافقتهم هذا الترتيب لغلبة الظن باعتمادهم على النسخ الصحيحة.
فأما همام هذا فهو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن عوف الأصهب وكان من شيعة علي عليه السلام، وأوليائه ناسكاً عابداً؛ وتثاقله عليه السلام عن جوابه لما رأى من استعداد نفسه لأثر المواعظة، وخوفه عليه أن يخرج به خوف الله إلى انزعاج نفسه وصعوقها، فأمره بتقوى الله: أي في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، وأحسن: أي أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها، ولذلك قال عليه السلام حين صعق همام: أما والله لقد كنت أخافها عليه، فحيث لم يقنع همام إلا بما سأل، وعزم عليه بذلك: أي ألح عليه في السؤال وأقسم، أجابه .
فإن قلت: كيف جاز منه عليه السلام أن يجيبه مع غلبة ظنه بهلاكه وهو كالطبيب إنما يعطي كلاً من المرضى بحسب احتمال طبيعته من الدواء؟
قلت: إنه لم يكن يغلب على ظنه عليه السلام إلا الصعقة عن الوجد الشديد فأما أن تلك الصعقة فيها موته فلم يكن مظنوناً له، وإنما قدم بيان كونه تعالى غنياً عن الخلق في طاعتهم وآمناً منهم في معصيتهم لأنه لما كانت أوامره تعالى بأسرها أو أكثرها يعود إلى الأمر بتقواه وطاعته وكان أشرف ما يتقرب إليه البشر بالتقوى؛ وهو في معرض صفة المتقين، فربما خطر ببعض أوهام الجاهلين أن الله تعالى في تقواه وطاعته منفعة. وله بمعصيته مضرة فصدّره الخطبة بتنزيهه تعالى عن الانتفاع والتضرر، وقد مرّ برهان ذلك غير مرة.
وقوله : «فَقَسَم ...» إلى قوله : «مواضعهم»: تقرير وتأكيد لكمال غناه عنهم لأنه إذا كان وجوده هو مبدء خلقهم وقسمة معايشهم ووضعهم من الدنيا في مراتبهم ومنازلهم من غني وفقير وشريف ووضيع فهو الغني المطلق عنهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}([6]) ثم أخذ في غرض الخطبة، وهو وصف المتقين فوصفهم بالوصف المجمل، فقال: فالمتقون فيها أهل الفضائل: أي الذين استجمعوا الفضائل المتعلقة بإصلاح قوتي العلم والعمل، ثم شرع في تفصيل تلك الفضائل ونسقها:
فالأولى: الصواب في القول وهو فضيلة العدل المتعلقة باللسان، وحاصله أن لا يسكت عما ينبغي أن يقال فيكون مفرطاً، ولا يقول ما ينبغي أن يسكت عنه فيكون مفرطاً بل يضع كلاً من الكلام في موضعه اللائق به، وهو أخص من الصدق لجواز أن يصدق الإنسان فيما لا ينبغي من القول.
الثانية: وملبسهم الاقتصاد، وهو فضيلة العدل في الملبوس فلا يلبس ما يلحقه بدرجة المترفين، ولا ما يلحقه بأهل الخسة والدناءة مما يخرج به عن عرف الزاهدين في الدنيا.
الثالثة: مشي التواضع، والتواضع ملكة تحت العفّة تعود إلى العدل بين رذيلتي المهانة والكبر، ومشي التواضع مستلزم للسكون والوقار عن التواضع نفسهم.
الرابعة: غض الأبصار عما حرم الله، وهو ثمرة العفة.
الخامسة: وقوفهم أسماعهم على سماع العلم النافع، وهو فضيلة العدل في قوة السمع، والعلوم النافعة ما هو كمال القوة النظرية من العلم الإلهي وما يناسبه، وما هو كمال للقوة العملية وهي الحكمة العملية كما سبق بيانها.
السادسة: نزول أنفسهم منهم في البلاء كنزولها في الرخاء: أي لا يقنط من بلاء ينزل بها ولا يبطر برخاء يصيبها بل مقامها في الحالين مقام الشكر، والذي صفة مصدر محذوف، والضمير العائد إليه محذوف أيضاً، والتقدير نزلت كالنزول الذي نزلته في الرخاء، ويحتمل أن يكون المراد بالذي الذين محذوف النون كما في قوله
تعالى: {كَالَّذِي خَاضُوا}([7]) ويكون المقصود تشبيههم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالذين نزلت أنفسهم منهم في الرخاء، والمعنى واحد.
السابعة: غلبة الشوق إلى ثواب الله والخوف من عقابه على نفوسهم إلى غاية أن أرواحهم لا تستقر في أجسادهم من ذلك لولا الآجال التي كتبت لهم، وهذا الشوق والخوف إذا بلغ إلى حد الملكة فإنه يستلزم دوام الجد في العمل والإعراض عن الدنيا، ومبدءهما تصوّر عظمة الخالق، وبقدر ذلك يكون تصور عظمة وعده ووعيده، وبحسب قوة ذلك التصوّر يكون قوة الخوف والرجاء، وهما بابان عظيمان للجنة.
الثامنة: عظم الخالق في أنفسهم، وذلك بحسب الجواذب الإلهية إلى الاستغراق في معرفته ومحبته، وبحسب تفاوت ذلك الاستغراق يكون تفاوت تصور العظمة وبحسب تصور عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغرية مادونه ونسبته إليه في أعين بصائرهم.
وقوله: «فهم والجنة كمن رآها ...» إلى قوله: «معذبون»: إشارة إلى أن العارف وإن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدته بعين بصيرته لأحوال الجنة وسعادتها وأحوال النار وشقاوتها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعموا فيها، وكالذين شاهدوا النار وعذبوا فيها، وهي مرتبة عين اليقين فحسب هذه المرتبة كانت شدة شوقهم إلى الجنة وشدة خوفهم من النار.
التاسعة: حزن قلوبهم، وذلك ثمرة خوف الغالب.
العاشرة: كونهم مأموني الشر، وذلك أن مبدء الشرور محبة الدنيا وأباطيلها والعارفون بمعزل عن ذلك.
الحادية عشر: نحافة أجسادهم، ومبدء ذلك كثرة الصيام والسهر وجشوبة المطعم وخشونة الملبس وهجر الملاذ الدنيوية.
الثانية عشر: خفة حاجتهم، وذلك لاقتصارهم من حوائج الدنيا على القدر الضروري من ملبس ومأكل، ولا أخف من هذه الحاجة.
الثالثة عشـر: عفة أنفسهم، وملكة العفّة فضيلة القوة الشهوية، وهي الوسط بين رذيلتي حمود الشهوة والفجور.
الرابعة عشـر: الصبر على المكاره أيام حياتهم من ترك الملاذ الدنيوية، واحتمال أذى الخلق، وقد عرفت أن الصبر مقاومة النفس الأمارة بالسوء لئلا ينقاد إلى قبائح اللذات، وإنما ذكر قصر مدة الصبر واستعقابه للراحة الطويلة ترغيباً فيه، وتلك الراحة بالسعادة في الجنّة كما قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}([8]) الآية.
وقوله: «تجارة مربحة»: استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة وامتثال أوامر الله، ووجه المشابهة كونهم متعوضين بمتاع الدنيا وبحركاتهم في العبادة متاع الآخرة ورشح بلفظ الربح الأفضلية متاع الآخرة زيادته في النفاسة على ما تركوه، وظاهر أن ذلك بتيسير الله لأسبابه وإعدادهم له بالجوانب الإلهية.
الخامسة عشـر: عدم إرادتهم للدنيا مع إرادتها لهم، وهو إشارة إلى الزهد الحقيقي وهو ملكة تحت العفة، وكنى بإرادتها عن كونهم أهلاً لأن يكونوا فيها رؤساءاً وأشرافاً كقضاة ووزراء ونحو ذلك، وكونها بمعرض أن تصل إليهم لو أرادوها، ويحتمل أن يريد أرادهم أهل الدنيا فحذف المضاف.
السادسة عشـر: افتداء من أسرته لنفسه منها، وهو إشارة إلى من تركها وزهد فيها بعد الانهماك فيها والاستمتاع بها ففك بذلك الترك والإعراض والتمرن على طاعة الله أغلال الهيئات الرديئة المكتسبة منها من عنقه، ولفظ الأسر استعارة في تمكن تلك الهيئات من نفوسهم، ولفظ الفدية استعارة لتبديل ذلك الاستمتاع بها بالإعراض عنها والمواظبة على طاعة الله، وإنما عطف بالواو في قوله: «ولم يريدوها»، وبالفاء في قوله : «فقدوا» لأن زهد الإنسان في الدنيا كما يكون متأخراً عن إقبالها عليه كذلك قد يكون متقدماً عليه لقوله عليه السلام: ومن جعل الآخرة أكبر همه جمع الله عليه همه وأتته الدنيا وهي راغمة([9])، فلم يحسن العطف هنا بالفاء، وأما الفدية فلما لم يكن إلا بعد الأسر لا جرم عطفها بالفاء..
السابعة عشـر: كونهم صافين أقدامهم بالليل يتلون القرآن ويرتلونه ... إلى قوله: «آذانهم»: وذلك إشارة إلى تطويع نفوسهم الأمارة بالسوء بالعبادات، وشرح لكيفية استثارتهم للقرآن العزيز في تلاوته وغاية ترتيلهم له بفهم مقاصده وتحزينهم لأنفسهم به عند ذكر الوعيدات من جملة استثارتهم لإدواء دائهم، ولما كان داؤهم هو الجهل وسائر رذائل العملية كان داء الجهل بالعلم، ودواء كل رذيلة الحصول على الفضيلة المضادة.
فهم بتلاوة القرآن يستثيرون بالتحزين الخوف من وعيد الله المضاد للانهماك في الدنيا، ودوائه العلم الذي هو دواء الجهل، وكذلك كل فضيلة حث القرآن عليها فهي دواء لما يضادها من الرذائل، وباقي الكلام شرح لكيفية التحزين والتشويق.
وقوله: «فهم حانون على أوساطهم»: ذكر لكيفية ركوعهم.
وقوله: «مفترشون الجباههم ...» إلى قوله: «أقدامهم»: إشارة إلى كيفية سجودهم، وذكر الأعضاء السبعة.
وقوله: «يطلبون ...» إلى قوله: «رقابهم»: إشارة إلى غايتهم من عبادتهم تلك. وبالجملة فهذه الخطبة من جليل وبليغ وصفه ولذلك فعلت بهمام ما فعلت، فأما جوابه عليه السلام لمن سأله بقوله: ويحك إن لكل أجل وقتاً لا يعدوه: أي ينتهي إليه ويكون غاية له لا يتجاوزها ولا يتأخر عنها الضمير في يعدوه للأجل، وسبباً لا يتجاوزه: أي ولذلك الأجل سبب: أي علة فاعلة لا يتعداها إلى غيرها من الأسباب، فمنها ما يكون موعظة بالغة كهذه، فهو جواب مقنع للسامع مع أنه حق وصدق، وهو إشارة إلى السبب الأبعد لبقائه الا عند سماع المواعظ البالغة وهو الأجل المحكوم به للقضاء الإلهي، وأما السبب القريب للفرق بينه وبين همام ونحوه فقوة نفسه القدسية على قبول الواردات الإلهية وتعوده بها وبلوغ رياضته حد السكينة عند ورود أكثرها وضعف نفس همام عما ورد عليه من خوف الله ورجائه . ولم يجب الله بمثل هذا الجواب لاستلزامه تفضيل نفسه، أو لقصور فهم السائل، ونهيه له عن مثل هذا السؤال والتنفير عن كونه من نفئات الشيطان لوضعه في غير موضعه وهو من آثار الشيطان. وبالله العصمة والتوفيق)([10]).
الهوامش:
([1]) النحل: ۱۲۸.
([2]) في نهج البلاغة للشيخ العطار: بذلك.
([3]) ما بين القوسين في شرح النهج لابن ميثم ونهج محمد عبده: (كتب عليهم).
([4]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ٣٠٣ - ٣٠٦/ خطبة رقم ١٩٣، ونهج البلاغة للشيخ العطار: ٤٠٥ - ٤١٠ / خطبة رقم ۱۹۳، شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٣: ٤٠٩ - ٤١٣/ خطبة رقم ١٨٤، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ١: ٤١٩ - ٤٢٥.
([5]) شرح الألفاظ الغربية: ٦٥٥ - ٦٥٦.
([6]) الزخرف: ۳۲.
([7]) التوبة: ٦٩.
([8]) الإنسان: ۱۲.
([9]) ميزان الحكمة ١ ٣٥.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 250-260.