بقلم: د. قاسم خلف السكيني.
الحمد لله رب العالمين، عليه نتوكل وبه تعالى نستعين، سبحانه (الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره). وصلوات ربي الزاكيات، وسلامه الموفور بالخير والبركات، على خير خلقه، وخاتم رسله، محمد وعلى آله الطاهرين.
قال عليه السلام: اَلغِنَى فيِ الغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَالفَقْرُ فيِ الوَطَنِ غُرْبَةٌ([1])
الغنى: مقصور، في المال واستغنى الرجل: أصاب غنى، قال البحراني في المصباح: (استعار له لفظ الوطن باعتبار أنه مطية راحته وسكونه إليه، ولفظ الغربة للفقر في الوطن باعتبار ضيق الخلق به، وتعسر الأمور معه). والوطن المتمثل بالغنى هو استئناس الغريب لهذا الوطن، وتوطن نفسه إليه. وربما يهول بعض المعترضين من أن في هذا القول انتقاصا من شأن الوطن المتمثل بالمحل والمسكن[2] ودعوة إلى الاغتناء عنه بالمال. والرد على هذا الاعتراض أن لفظ الوطن إنما يقصد به توطين النفس واطمئنانها وسكونها وهدوئها لا الوطن بمعنى البلاد والمستقر والتراب. الا يرى المعترض أن الإمام عليه السلام إنما أراد تفضيل اليسر على العسر، والغنى بمعنى الاستغناء عن الحاجة على الفقر والحاجة. وان لفظ الوطن في هذه الحكمة يتعدى الدلالة اللغوية المنحصرة بالمكان والتراب والمسكن، على ما يعتقد المعترض، إلى ما يبعث على توطين النفس واستقرارها وانشراحها وثباتها. ونجد مصداق حب الوطن والبلاد في أقوال كثيرة منسوبة للإمام كقوله: (من كرم المرء بكاء المرء على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه)[3]: أي مواطن إقامته. وهناك روايات أخر، غير ما ورد في المتن منها: (الحمق في الوطن غربة)[4] وهي رواية ذات دلالة أخرى فالحمق غير الفقر، والحمق هو غربة ولكنه من نوع آخر، وهو غربة في أي مكان وأي زمان. ولعل من الملاحظ، أن في رواية الحدائق: (الغنى في العز وطن) تصحيفا، إذ نعتقد أن كلمة غربة حذف نصفها الثاني وبقيت (الغر) ثم زحفت النقطة لتصبح (العز). وعلى كل حال فهي رواية أحادية تخالف دلالة الحكمة)([5]).
الهوامش:
([1]) وردت في العيون ص28 (الغنى في الغربة وطن) ولم يذكر بقية الحكمة، وفي الحدائق 1/79: (الغنى في العز وطن والفقر في الوطن غربة) وفي شرح الغرر 3/175: (الفقر في الوطن غربة) ولم يورد الشطر الأول من الحكمة، ورويت بلفظ المتن في: المنهاج 3/279، والترجمة 2/437، وشرح ابن أبي الحديد 18/ 190، وشرح البحراني 5/271، والمصباح 591.
([2]) تاج العروس: (وطن).
([3]) بهج الصباغة سبق ذكره 13/ 452.
([4]) شرح الغرر 2/213.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: شرح حكم الإمام علي وتحقيقها من شروح نهج البلاغة: للدكتور قاسم خلف مشاري السكيني، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص70-71.