أمير المؤمنين (عليه السلام) وقمر بني هاشم
الباحث: محمد حمزة الخفاجي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين أبي القاسم محمد وآله المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبعد
لم يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا إلا وأخبر به الإمام علي (عليه السلام) فقد أخبره بمقتل الزهراء([1]) ومقتله([2]) ومقتل أبنائه الحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهم)([3]) كذلك أخبره بما سيحل على أبنائه في واقعة كربلاء، ففي رواية عن أم سلمة (رضوان الله تعالى عليها) أنها قالت: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا، ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يا رسول الله، ما لي أراك شعثا مغبرا ؟ ! فقال: \ أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال لها كربلاء، فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل القط دماءهم فها هي في يدي \ وبسطها إلي فقال: \ خذيها واحتفظي بها \ فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة وسددت رأسها واحتفظت به، فلما خرج الحسين (عليه السلام) من مكة متوجها نحو العراق، كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم وليلة فأشمها وأنظر إليها ثم أبكي لمصابه، فلما كان في اليوم العاشر من المحرم، وهو اليوم الذي قتل فيه (عليه السلام)، أخرجتها في أول النهار وهي بحالها ، ثم عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط، فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت )([4]).
فمن المؤكد أن الله سبحانه قد أرى رسوله (صلوات الله وسلامه عليه) قمر بني هاشم وما سيجري عليه من قطع الكفين، لذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم بعظيم قدره فقبل ان يشرع بالزواج سأل أخوه عقيل عن إمراة انجبتها فحول العرب كي تلد له هذا الغلام الطاهر فأشار عقيل إلى أم البنين فتزوجها الإمام (عليه السلام) فولدت له قمر العشيرة.
وروي أن زهير ابن القين (رضوان الله عليه) قال لقمر العشيرة (... يا أبا الفضل إن أباك أمير المؤمنين(عليه السلام) لما أراد أن يتزوج أم البنين بعث إلى أخيه عقيل وكان عارفا بأنساب العرب فقال (عليه السلام): يا أخي أريد منك ان تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة لكي أصيب منها ولدا شجاعا وعضدا ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين (عليه السلام) - ليواسيه في طف كربلاء وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك، قال فارتعد العباس (عليه السلام) وتمطى في ركابه حتى قطعه وقال يا زهير تشجعني في مثل هذا اليوم والله لأرينك شيئا ما رأيته قط، قال فهمز جواده نحو القوم حتى توسط الميدان وساق الحديث إلى آخر مقتل العباس (عليه السلام)[5].
فالإمام علي (عليه السلام) أراد أن يبين للناس أهمية هذا المولود وما حباه الله من منزلة عند الله وعند المعصومين (عليهم السلام).
وكان (عليه السلام) كلما ينظر الى كفي أبي الفضل يبكي لأنه يعلم ما سيصنع بهما، فقد روى المقرم أن أم البنين رأت أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأيام أجلسَ أبا الفضل (عليه السلام) على فخذه وشمر عن ساعديه وقبلها وبكى فأدهشها الحال؛ لأنها لم تكن تعهد صبياً بتلك الشمائل العلوية ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر ولما أوقفها أمير المؤمنين (عليه السلام) على غامض القضاء وما يجري على يده من القطع في نصرة الحسين (عليه السلام) بكت واعولت وشاركها من في الدار في الزفرة والحسرة غير أن سيد الأوصياء (عليه السلام) بشرها بمكانة ولدها العزيز عند الله جل شأنه وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) فقامت تحمل بشرى الابد والسعادة الخالدة([6]).
فعلاقة أمير المؤمنين (عليه السلام) بولده العباس (عليه السلام) علاقة مختلفة فهو حامل لواء أخيه الحسين (عليه السلام) في طف كربلاء لذا أنشأه بنشأة خاصة لما له من دور كبير في تلك الواقعة.
فمنذ عالم الأصلاب والأرحام وضعه في خير مستقر وخير مستودع كي يرث الشجاعتان الهاشمية والعامرية ثم يكتسب من هذه البيوتات الطاهرة الوفاء والإخلاص فقد نشأ أبو الفضل العباس (عليه السلام) في بيت أذن الله أن يرفع فصار بفضل الله من القادة العِظام وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اصطحبه في صفين وقد قاتل قمر العشيرة المنافقين وقتل منهم أقوى الرجال، فقد عرف العباس ببسالته لذا كانوا يهابونه لما له من شجاعة وقوة لا زال يضرب فيها المثل، وقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه العباس (عليه السلام) قبل رحيله بوصايا عدة منها كفالة العائلة وبالخصوص زينب (عليها السلام) كذلك طاعة أبناء فاطمة (صلوات الله عليهم) والإخلاص لهم.
جاء في كتاب قمر بني هاشم للسيد المقرم: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا العباس (عليه السلام) وضمه إليه وقبَّل بين عينيه وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطف أن لا يذوق قطرة منه وأخوه الحسين (عليه السلام) عطشان فقول أرباب المقاتل نفض الماء من يده ولم يشربه إنما هو لأجل الوصية من أبيه المرتضى (عليه السلام)([7]).
فحينما ملك قمر بني هاشم الشريعة تذكر وصية أبيه لذا رمى الماء وصار ينشد:
يا نفس من بعد الحسين هوني * من بعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين شارب المنون * وتشربين بارد المعين
هيهات ما هذا فعال ديني * ولا فعال صادق اليقين([8]).
فعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) هو من أنشأ هؤلاء الأبطال فهو أديب المكرمين فمن ينشأ في بيت فيه سيد الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا شك في أنه سيختلف عن غيره في كثير من الصفات وقمر العشيرة ممن شهد له الحجج بفضلة وشجاعته وجميع صفاته.
فنسأل لله أن يوفقنا في خدمة أمير المؤمنين وأبناءه الطاهرين وأن يحشرنا معهم في الدنيا والاخرة.
الهوامش:
[1] - الأمالي، الشيخ الصدوق، ص692.
[2] - ينظر الأمالي، الشيخ الصدوق، ص155.
[3] - كتاب سليم بن قيس سليم بن قيس الهلالي الكوفي، ص309.
[4] - الارشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص130- 131.
[5]- اكسير العبادات في اسرار الشهادات، الفاضل الدربندي، ج2، ص497، الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص443.
[6] - قمر بني هاشم، عبد الرزاق المقرم، ص28، نقلا عن كتاب قمر بني هاشم الفارسي، ص21.
[7] - قمر بني هاشم، عبد الرزاق، ص62.
[8] - شرح الأخبار القاضي النعمان المغربي، ج3، هامش، ص191.