(ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، بيعة الغدير أنموذجًا

مقالات وبحوث

(ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، بيعة الغدير أنموذجًا

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-08-2018

((ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ))([1])،(بيعة الغدير أنموذجًا)

 

الحمد لله على اتمام النعمة، واكمال الدين، ورضا ربّ العالمين برسالة سيد المرسلين، والموالاة لعلي عليه السلام إماما ووصيا لرسول رب العالمين.

أما بعد:

فلم يكن ما جرى في حادثة الغدير محض صدفة أو إرادة شخص بعينه، وإنما هي إرادة سماوية جرى حكم الله  سبحانه فيها منذ الأزل، وقد لازمت مسألة الإمامة والولاية لعلي عليه السلام عمر الرسالة الإسلامية منذ باشر الرسول الكريم بتبليغها في أول مجلس مع كبار قريش وساداتهم، وتوالت المواقف التي يصدح بهذا التبليغ فيها كل ما مرت الأمة الإسلامية بحادث أو موقف يطلب تضحية سدنة الدين حتى ختمها في رزية الخميس ولكن الإعلان الرسمي لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام كان في غدير خم في حجة الوداع، ولنا أن نستعرض أهم المواقف التي صرح بها النبي محمد صلى الله عليه وآله، بولاية علي عليه السلام لنقف على عظمة هذا الأمر من جهة، وقباحة أعداء الإمام علي عليه السلام وتجرؤهم على إرادة السماء وغصب حقه المنصوص عليه من جهة أخرى، وبحسب الآتي:

أولا: حديث الدار:

  لحديث الدار الدور التأسيسي الرائد في تثبيت دعائم الإسلام ووضع أساسياته، وقد تضمن أيضا الكشف عن من يخلف الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في الأمة الإسلامية بعد رحيله صلى الله عليه وآله، وكان ذلك لما نزل قوله تعالى((وأَنْذِرْعَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ))([2])، فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله  كبار قريش وزعمائهم إلى دار عمه أبي طالب ، وعرض عليهم الإسلام وفي آخر حديثه ( صلى الله عليه وآله) قال: ((أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه وعلى القيام به ، يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ( فلم يجب أحد منهم) . فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( فقمت بين يديه من بينهم – وأنا إذ ذاك أصغرهم سنا ، وأحمشهم(*) ساقا ، وأرمضهم(**) عينا - فقلت : أنا - يا رسول الله - أؤازرك على هذا الأمر . فقال: اجلس ، ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا ، وقمت فقلت مثل مقالتي الأولى ، فقال : اجلس . ثم أعاد على القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا أؤازرك - يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: اجلس، فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يا أبا طالب ، ليهنك  اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك))([3])، ولنا أن نتأمل في بنيات هذا النص لنقف على أمور منها:

1-   قوة الإيمان والتسليم المطلق من الرسول صلى الله عليه وآله، والإمام علي عليه السلام بالله سبحانه وتعالى؛ إذ يحاورون القوم وهم في منتهى الثقة بقيام الدين الإسلامي وأنه كان أمرا مقضيا.

2-   يكشف هذا النص التأسيس الأول لربط النبوة بالإمامة، والإعلان عن مكانة الإمام علي عليه السلام بلحاظ توجيه السماء، فلا بد من الذي يكمل المسير بد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بيد أنه خاتم الأنبياء.

3-   تكشف عبارة (فأنت أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي) عن  أقوال مضمرة لها مرجعيات دينية ، يطيب لنا ذكرها:

أ‌-      لعل (الأخوة) الواردة في الحديث الشريف هي أخوة الرسالة والتبليغ، والاستمرار في بث الدعوة والحفاظ على مبادئها، ولها مصاديق قرآنية كما في قوله تعالى: ((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (*) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ))([4]).

ب‌-  (الوصي) وهو مصطلح قار بين الأنبياء إذ جرى أن لكل نبي وصي بعد وفاته.

ت‌-   (وزيري) ومهمته مساندة الرسول صلى الله عليه وآله في حياته يكون عونا له في كل الأمور ، وكان الإمام علي عليه السلام مصداقا لهذه الوزارة فهو القائد والناصر والمحامي والمبلغ عن لسان النبي صلى الله عليه وآله، كرار غير فرار، وقد جاء في القرآن الكريم مصطلحا (الأخوة والوزارة)على لسان موسى عليه السلام ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا))([5]).

ث‌-  (وارثي) ولعل الوراثة وراثة الدين و أمر هذه الأمة، لا وراثة ماديات الدنيا، جاء في القرآن الكريم ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ))([6])، فهم عليهم السلام قد رغبوا بالآخرة عن ملذات الدنيا، وهو القائل: ((أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاَلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز!))([7]).

ج‌-    ( خليفتي) على المسلمين.

4-   يكشف أسلوب الإنذار والتبليغ الذي اتبعه الرسول الكريم صلى الله عليه وآله عن مقاصد كامنة تعرب عن حجم الخطر المحدق بالأمة في حال تخلفها عن وصايا الرسول صلى الله عليه وآله، ثم أُعلن عن إمامة علي عليه السلام على وفق مراسيم امتزجت بالمعجزة النبوية في حديث الدار، ولم يترك مجال لمعترض أو مشكك في أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر الحاضرين في الدار وخارجها، وأسلوب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يُنبئ عن أبعاد مستقبلية كان يعيها ويعلمها صلى الله عليه وآله وسلم قبل وقوعها، أهمها تصدي من حارب ظهور الإسلام وانتشاره إلى منصة الحكم باسم الإسلام ومزاحمة أهل الدين وحملة الكتاب على حقهم وسبقهم فيه، وحديث الدار هذا وحده كاف ليترجم لنا مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) وتمييز أصحاب الدين الذي فيهم تشبثت عروقه، من الذين ينعقون مع كل ناعق، لذلك أجلس النبي صلى الله عليه وآله الإمام عليا (عليه السلام) ثلاث مرات بعد تكرار دعوته إليهم وهم صامتون مستهزئون، وبعدها أعلن ولاية الإمام (عليه السلام) حتى لا يدعي أحد منهم بعد حين أن الأمر دُبِّرَ بليل.

وعليه ((لم تكن من الصدفة المحضة تولي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله تربية علي عليه السلام منذ الطفولة حيث فتح عينيه في حجره ونشأ في كنفه وتهيأت له فرض التفاعل معه والاندماج بخطه ما لم يتوفر لأي إنسان آخر فيعدّه أعدادا رساليا وقياديا خاصا لتتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة وليواصل بعده وبمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار قيادة الأمة وبناءها عقائديا وتقويتها باستمرار نحو المستوى الذي يؤهلها لتحمل المسؤوليات القيادية))([8]).

ثانيا- حديث الغدير( الإعلان الرسمي):

لا نحبذ الخوض بتفاصيل أحداث الغدير - فقد باتت المؤلفات شاخصة بها- بقدر تقصي القرائن التي رافقت تلك الأحداث، المادية منها والمعنوية لتصب جميعا في تصوير هالة ذلك الإعلان الإلهي لولاية علي عليه السلام بأنه مولى كل مسلم ومسلمة، ولنا أن نبدأ بالآتي:

1-   باشر الرسول صلى الله عليه وآله مراسيم الغدير بأمر من السماء، عند نزول قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ))([9]).

 إذ نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع ( 10 ه‍ ) لما بلغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله غدير خم فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار ، فقال : يا محمد ؟ إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : يا أيها الرسول بلغ ) الآية - وكان أوائل القوم - وهم مائة ألف أو يزيدون - قريبا من الجحفة فأمره أن يرد من تقدم منهم ، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم عليا عليه السلام علما للناس ويبلغهم ما أنزل الله فيه ، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس . ولم يبلغ صلى الله عليه وآله  أمرا مهما في الدين غير تنصيب الإمام علي عليه السلام إماما للأمة بعد نزول الآية([10]).

2-   ولما باشر النبي صلى الله عليه وآله بتبليغ أمر السماء بكل دقة ختمت أحداث الغدير بنص قرآني آخر يخبر بتمام النعمة وكمال الدين: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا))([11])، إذ ((صفقت الإمامية عن بكرة أبيهم على نزول هذه الآية الكريمة حول نص الغدير بعد إصحار النبي صلى الله عليه وآله بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بألفاظ درية صريحة، فتضمن نصا جليا عرفته الصحابة وفهمته العرب فاحتج به من بلغه الخبر، وصافق الإمامية على ذلك كثيرون من علماء التفسير وأئمة الحديث وحفظة الآثار من أهل السنة))([12])

3-   مقصدية اختيار الزمان والمكان في التبليغ: نحا النبي محمد صلى الله عليه وآله في اعلان إمامة وخلافة الإمام علي عليه السلام خطوات تلفت النظر وتثير العجب حتى تجعل القارئ لها يبحث عن سبب هذا الإجراء في التبليغ؛ إذ اتخذ من منطقة غدير خم مكانا للتبليغ وهو بحسب المصادر: (خُمٌّ) اسم موضع غدير خمّ، وخمّ في اللغة: قفص الدجاج، فإن كان منقولا من الفعل فيجوز أن يكون مما لم يسمّ فاعله من قولهم خمّ الشيء إذا ترك في الخمّ، فكأنها سميت بذلك لنقائها، قال الزمخشري: خمّ اسم رجل صبّاغ أضيف إليه الغدير الذي هو بين مكة والمدينة بالجحفة، وقيل: هو على ثلاثة أميال من الجحفة([13]).

وهو يقع على مفترق طرق الى أمصار مختلفة ومنه يتفرق الحجاج الى أوطانهم، فاتخذه صلى الله عليه وآله مكان للتبليغ ومنه يتفرق الحجاج لينقل الأحداث بما فيها حديث تنصيب الإمام عليه السلام إماما للأمة وبذلك يحقق أعلى درجات التواتر.

أما الزمان فهو موسم الحج الذي يعني تجمع آلاف المسلمين وكلهم قد سمعوا وشاهدوا الرسول يبلغ ويصدع بأمر السماء([14]).

وبعد ذلك نرى الواقع المرير الذي عانت منه الأمة الإسلامية بسبب من حرفها عن مسارها المرسوم بغية فلاحها ونجاتها، ولكن لطلاب الدنيا والمناصب اليد الطولى في تعاسة الأمة بمطية المكر والباطل وغرهم بالله الغرور، حتى أضحى الإمام علي عليه السلام يلقي الحجة عليهم بين الفينة والأخرى لغرض التذكير والنصح من الضياع، فقال في غير موقف ومنه في صفين حين (( صعد علي عليه السلام المنبر ( في صفين ) في عسكره وجمع الناس ومن بحضرته من النواحي والمهاجرين والأنصار ، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : معاشر الناس ؟ إن مناقبي أكثر من أن تحصى وبعد ما أنزل الله في كتابه من ذلك وما قال رسول صلى الله عليه وآله ، أكتفي بها عن جميع مناقبي وفضلي ، أتعلمون أن الله فضل في كتابه السابق على المسبوق وأنه لم يسبقني إلى الله ورسوله أحد من الأمة ، قالوا : نعم ، قال : أنشدكم الله سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن قوله : السابقون السابقون أولئك المقربون . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنزلها الله في الأنبياء وأوصيائهم وأنا أفضل أنبياء الله ورسله ووصيي علي بن أبي طالب أفضل الأوصياء ؟ فقام نحو من سبعين بدريا جلهم من الأنصار و بقيتهم من المهاجرين منهم : أبو الهيثم بن التيهان ، وخالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري ، وفي المهاجرين عمار بن ياسر ، فقالوا : نشهد أنا قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك . قال : فأنشدكم بالله ؟ في قول الله : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وقوله : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا . الآية . ثم قال : ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة . فقال الناس : يا رسول الله ؟ أخاص لبعض المؤمنين ؟ أم عام لجميعهم ؟ فأمر الله عز وجل رسوله أن يعلمهم وأن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم ، فنصبني بغدير خم وقال : إن الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس مكذبي فأوعدني لأبلغها أو يعذبني ، قم يا علي ؟ ثم نادى بالصلاة جامعة فصلى بهم الظهر ثم قال : أيها الناس؟ إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصره من نصره، واخذل من خذله))([15]).

والحق أن العداء الذي نصبته قريش وغطارستها للإمام علي عليه السلام هو الذي حال دون التسليم له، أضف إلى ذلك تطلعهم للزعامة والسلطة وحب الملك، وقد جابهوا- قريش- النبي محمدا صلى الله عليه وآله مذ باشر الدعوة رافضين لمبادئ الإسلام التي ترى الناس سواسية، فهم أما سادة وكبراء متغطرسون أو لا إسلام، ونرى القرآن الكريم يكشف بدقة ورقة جانبا من عدائهم وحسدهم وحقدهم للنبي صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام بقوله تعالى: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))([16]).

قال الطاهر بن عاشور: ((فَهُمْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ إِطْمَاعًا لَهُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مُغَايِرًا أَوْ مُبَدَّلًا إِذَا وَافَقَ هَوَاهُمْ.

وَمَعْنَى غَيْرِ هَذَا مُخَالِفُهُ. وَالْمُرَادُ الْمُخَالَفَةُ لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَابْتِدَاءِ كِتَابٍ آخَرَ بِأَسَالِيبَ أُخْرَى))([17])، فهم يصرون  على قرآن غير هذا حتى يستهدفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وآله، ولكن ما معنى قوله (أو بدله) الا تغني عبارة ( ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا) عن التبديل، في الحقيقة  إن المفسرين يقولون: ((أو بدله:  أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لأهوائهم إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الاتيان بغيره وبين تبديله))([18]).

ويرى البحث- والله أعلم- أن قوله تعالى (ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا) واضحة وتغني عن عبارة أو بدله، وإن عبارة (أو بدله) مقصود بها (الوصي) عليه السلام فهم طالبوا بشيئين: أما تبديل القرآن جملة بأن يأتي بقرآن غيره، فإن اجابهم كان هناك خلل والعياذ بالله بأنه ليس بكلام الله وهذه غايتهم، أو تبديل ( الوصي- الإمام علي) بأن يختار غيره ؛ لأنه صاحب الساعد الذي أذلهم في سبيل الله، و أولغ بهم الدماء، فكان الإمام علي عليه السلام عقدتهم ولذلك كمنوا له العداء واستمروا به حتى طال أهل بيته (عليهم السلام).

 وخلاصة الأمر كان مطلبهم محصور بين أمرين: الأول تغيير القرآن الكريم وهو القرآن الصامت، والآخر: تبديل القرآن الناطق، والمشكلة أنهما – القرآنين- متلازمان بتوقيف إلهي، فتكفل القرآن بالرد عليهم ولذلك ركز على القرآن الناطق فقال: ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذا الجواب يفسره قوله تعالى في آية التبليغ: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) والله أعلم.

 

الهوامش

([1]) سورة يونس: 15.

([2]) سورة الشعراء : 114.

(*) حمش: رجلٌ أَحْمَشُ الساقين: دقيقهما. ينظر: الصحاح: 3/ 1002.

(**) شيء تفرزه العين يجتمع في مجرى الدمع، ينظر: الصحاح :3 / 1042.

([3]) الإرشاد، للشيخ المفيد: 1/ 50.

([4]) سورة القصص: 34-35.

([6]) سورة النمل: 16.

([7]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 48.

([8]) سورة القصص: 29- 34.

([9]) سورة المائدة: 65.

([10]) ينظر: الغدير: 1:/ 214.

([11]) سورة المائدة: 3.

([12]) الغدير: 1/ 230.

([13]) ينظر: معجم البلدان: 390.

([14]) ينظر: الغدير: 1/ 214.

([15]) الغدير: 1/ 196.

([16]) سورة يونس: 15.

([17]) التحرير والتنوير: 11/ 116.وينظر: البحر المحيط: 6/ 17.

([18]) تفسير الميزان: 10/ 26.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.4966 Seconds