إتباع الهوى وطول الآمل في منظور أمير المؤمنين (عليه السلام)

مقالات وبحوث

إتباع الهوى وطول الآمل في منظور أمير المؤمنين (عليه السلام)

10K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 02-05-2019

إتباع الهوى وطول الآمل في منظور أمير المؤمنين (عليه السلام)

 

الباحث: الشّيخ سجاد عبد الحليم الرّبيعي

 

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصَّلَاة والتَّسليم على طبيب نفوسنا وحبيب قلوبنا مُحَمّد (صلَّى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته وصحبه المنتجبين.

 

قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[1]. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[2]. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيّها النّاس: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، و أمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة)[3].

 

إذا ما أردنا سبرغور فكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في محاولة للاطلاع على تصوره للحياة وكيفية العيش فيها ،يجدر الوقوف عند أمرين مهمين في سلوك الإنسان نحو الله سبحانه وتعالى، وهما أعظم مهلك للإنسان فلذلك كان الخوف منهما أشد الأمر الأول: اتّباع الهوى، الأمر الثاني: طول الأمل.

 

الأمر الأول: أتباع الهوى

 

عند ملاحظة الأمر الأول نجد أن الإمام (عليه السلام) ينظر إلى  مفهوم الدنيا نظرة متوحدة على اتساعها وشموليتها وعمقها، نابعة عن تجاربه الحياتية، حيث إن تلك التجارب استوعبت معيشته، بكل إحساساته منذ بداية الدعوة الإسلامية .

 

ويهدف الإمام(عليه السلام) عن طريق كلامه أن يعطي درسا مهما في الحياة ، وما احدثه من تفتح خطير في الفكر الإسلامي بالاتجاه نحو التكالب على المادة، والتمتع بما في الحياة من ملذات إلى أقصى حد ممكن من طغيان الغرائز والميولات المختلفة، التي تخرج الإنسان من التوازن والحد الوسط إلى الافراط والتفريط، الذي تسبب بالخروج على الشرع والعقل، فتنتظم هذه الغرائز بهيجانها نحو  الهوى المذموم وتكون تابعة له. حيث يسببان ترك الحق والتمسك بالباطل، ويتضح ذلك من قوله(عليه السلام):( فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالاْمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَفَسَقَ [وقسط ]آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَاِ للَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا)[4]. أراد(عليه السلام) بالناكثين طلحة والزبير لأنّهما بايعاه ونقضا بيعته بخروجهما عليه وكذلك من تبعهما ممّن بايعه ، وبالمارقين الخوارج ، وبالقاسطين أو الفاسقين أصحاب معاوية ، وهذه الأسماء سبقت من الرسول (صلى اللَّه عليه وآله) إذ حكى في موضع آخر أنّه أخبره بأنّه سيقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين بعده ، وإنّما خصّ الخوارج بالمروق لأنّ المروق وهو مجاوزة السهم للرمية وخروجه منها ، ولمّا كانت الخوارج أوّلا منتظمون في سلك الحقّ إلَّا أنّهم بالغوابز عمهم في طلبه إلى أن تعدّوه وتجاوزوه لا جرم حسن أن يستعار لهم لفظ المروق لمكان المشابهة وقد أخبر الرسول (صلى اللَّه عليه وآله) عنهم بهذا اللفظ إذ قال : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية [5]. ولكن لتمسكهم في الدنيا عميت عيونهم وصمت أسماعهم فكان ذلك هو الباعث على إعراضهم عن الدّار الآخرة والسّبب لاشترائهم الضّلالة بالهدى ولسعيهم في الأرض بالعلوّ والفساد . ثم ان صاحب الهوى يحاول أن يفسر الحق أيضا طبقا لأهوائه ورغباته، ويمكن استخلاص ذلك من قوله(عليه السلام):( وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الاْحْيَاءَ)[6].

 

الأمر الثاني: طول الآمل

 

قال الله عزوجل: ﴿ وَلَتجدَنَّهُمْ أحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ﴾[7]. فليس الوصول إلى الله بطول العمر وأنما بحسن العمل، وبتعبير أمير المؤمنين(عليه السلام):( فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَاز وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ)[8]، لإنها من وجهة نظره(دَارُ فَنَاء، وَعَنَاء)[9]، يستحيل استمراريتها على نمط معين، فمكانيتها لا تعني الثبات والديمومة، لذلك يجب على من يعيش على أديمها أن يضع في اعتباره  أن الركون إلى مغرياتها، والجري وراء ملذاتها، والتكالب على مقتنياتها في ظل فكرة طول الأمل والخلود التي تراوده، ما هي إلا حلم بعيد المنال؛ لأنَّها كما يقول(عليه السلام):( أَلاَ وإنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لاَ يُسْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ فِيهَا)[10]. وهناك جانب اخر عالجه أمير المؤمنين(عليه السلام) عن طريق التأكيد بين الملازمة والعمل، كما يقول(عليه السلام):( وَأَمَّا طُولُ الاْمَلِ فَيُنْسِي الاْخِرَةَ)، ويمكننا استنتاج ذلك لأنَّ طول الأمل يوجب اشغال الفكر الذي يورث سهو القلب عن  ذكر الله وذكر الموت واحوال الاخرة وذلك معنى النسيان لها الموجب للشقاء الأبدي فيها. ثم ينبغي الالتفات إلى نكتة مهمة ، وهو إن أصل( الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهم في إدامة حركة الحياة البشرية في أبعادها المادية والمعنوية ، كما ورد عن أهل البيت(عليهم السلام).

 

في المتواتر عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال:( الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرا )[11]. وعنه صلى الله عليه وآله: ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليغرسها)[12]. ولكن هذا الأمل نفسه الذي وصفته الروايات الشريفة والذي يعد رمزا في حركة الإنسان وسعيه في الحياة الدنيا، وشبه الحكماء بالماء الذي يسقي الأرض، وينعش أحساسات الإنسان وعواطفه، هذا الآمل نفسه لو تجاوز حده أصبح عنصرا يهدد حياة الإنسان، ويغرقه في بحر الدنيا وملذاتها. روي عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام):( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)[13]. لو تتبعنا حديث الإمام (عليه السلام)،  نجده يتكون من حقيقتين أحدهما مكمل للأخر، الحقيقة الأولى: تشير إلى الامل الإيجابي لإعمار الدنيا، للإنسان الفطن الذي يجعلها مزرعة للآخرة ، كما ورد في الحديث الشريف (الدنيا مزرعة الأخرة ومن ابصر اليها ، اى جعلها مقصودة مطلوبة ، اعمته . يعنى منعته عن النظر الى ما وراءها من الباقيات الصالحات)[14].

 

الحقيقة الثانية: عدم نسيان الموت ، يجعل الإنسان ينصرف عن التفكير في الامل الطويل الذي لا ينفع ولايجدي من شيء، منه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[15]. ويترتب على ذلك عدم الإتيان بالاعمال الصالحة، كما يصوره قول أمير المؤمنين(عليه السلام):( من طال أمله ساء عمله)[16] ، التفكير بالآمال الطويلة وعوالق الدنيا، وخداع ظواهرها، يجعل الإنسان أن يسلك سبيل الشك والترديد بالله سبحانه وتعالى، فلاسبيل له إلا بتجديد اليقين محل الشك، والزهد في قبال قصر الأمل، فيكون ذكر الموت مدعاة لعدم نسيان الأخرة.

 

الهوامش:

[1] سورة الجاثية، الآية: 23 .

[2] سورة ص، الآية: 26 .

[3]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ): 1 /93 .

[4] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ): 1 /36 .

[5] ينظر: شرح نهج البلاغة، البحراني: 1 /265 .

[6] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ): 1 /153 .

[7] سورة البقرة، الآية: 96 .

[8] نهج البلاغة ،  خطب الإمام علي ( ع ): 2 /16 .

[9] نهج البلاغة خطب الإمام علي ( ع ): 1 /224 .

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( ع ): 1 /109 .

[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 74 /173 .

[12] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي( ت : 1320 هـ)، تحقيق : مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث ــ بيروت ــ لبنان ، ط2: 1408 - 1988 م: 13 /460 .

[13] وسائل الشيعة، الحر العاملي : 17 / 76 ب 28 ح 22026 .

[14] معارج نهج البلاغة، علي بن زيد البيهقي(ت : 565 هـ)، تحقيق :محمّد تقي دانش پژوه / إشراف :السيد محمود المرعشي، ط1 : 1409 ، مط ،  بهمن – قم مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم المقدسة.155 .

[15] سورة الحديد، الآية: 16 .

[16] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي(ت : ق 6 هـ) ، تحقيق : الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، ط1 ، مط: دار الحديث.

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2725 Seconds