الباحث: م.م. عمَّار حسن الخزاعي
اطلالة على حياة قيس:
قيس بن سعد بن عبادة بن دليم([1]) بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي([2])، يُكنَّى أبا الفضل وقيل أبا عبد الله، وقيل أبا عبد الملك، وقبيلته الخزرج من القبائل العربية التي كان لها مجدٌ في الجاهلية، ثمَّ ما لبثت أنَّ ألبسها الله تعالى لباس الإسلام فأشرقت بنور ربها ناصرةً وآويةً لنبيها، مقدِّمةً أبنائها فداءً للإسلام الحنيف .
وقد ورث قيس بن سعد (رضوان الله عليه) المكارم والفضائل عن أبيه وأجداده، فكان الخير فيهم أصيل، ولم يكتفِ قيس بما ورث عن آبائه من المجد والفضيلة، وإنَّما كان ذا إصرارٍ وعزيمة على أن يصنع له مجداً يضاهي أو يفوق ما ورث عن آبائه من المكارم، فكانت حياته مليئةً بالشرف والسمو والرفعة، ولم يدعُ أكرومةً إلا كان له فيها النصيب الأعظم، فكان ذا رياسةٍ ومجدٍ مستقلٍ في حياة أبيه ومنذ نعومة أظفاره، فقد لاح نجمه مشرقاً زاهياً في سماء المكارم، وهو ما يزال فتيَّا،ً وكيف لا يكون كذلك، وقد تأسَّست في عروقه الفضيلة من عراقة أسرته فيها، ثمَّ ما لبث أن تلقَّفته أيدي النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان له خير مربِّي، وكان قيس له خير خادم([3])، ثمَّ واصل ريادته في علياء الفضيلة عند باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان من خُلَّص أصحابه وأنصاره، بعدها ينتقل مشرقاً مضيئاً في سماء المجد عند مدرسة الكرم والفضيلة، كريم أهل البيت الإمام الحسن الزكي (عليه السلام)، وبذلك كانت حياته عبارة عن اشراقة منيرة بما حمَّلها من مواقف شامخة خلَّدها التاريخ له بكلِّ عزَّةٍ وإباءٍ وشمم .
كانت حياة قيس بن سعد بن عبادة (رضوان الله عليه) مليئة بالمواقف المشرقة بدءاً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومروراً مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وختاماً مع الإمام الحسن (عليه السلام) .
غديريَّته:
ومن خيرة مواقف قيس بن سعد (رضوان الله عليه) قصيدته الغديرية التي أنشدها بين يدي أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو في طريقه إلى صفين، ومنها ما قاله:
قلت لمــــــا بغى العدوّ علينـــــــــــا * حسبنا ربّنا ونعم الوكيل
حسبنا ربّنا الذي فتح البصــــــ * رة بالأمس والحديث طويل
وله شكر ما مضى وعلى ذا * إنَّ هذا من شكره لقليــــل
وعليٌّ إمــــــــــــامنــــــــــــــــــا وإمــــــــــــــــام * لسوانا أتى بـــه التنزيــــــــــــــل
يوم قال النبي: من كنت مولا * هـ فهذا مولاه خطب جليــــل
إنَّ ما قاله النبيّ علـــى الأمّة * حتم ما فيه قــــــــــــال وقيــــــــــلُ([4])
دلالة القصيدة:
ينصُّ قيس بن سعد (رضوان الله تعالى عليه) في قصيدته على جملة قضايا عقائدية مهمَّة، منها: أنَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هي إمام لكلِّ الناس سواء أكانوا معترفين بإمامته أم لم يكونوا كذلك، وقيس بهذا المفهوم يُعطي الإمامة بعداً شبيهاً بالنبوة، فكما أنَّ النبي مرسل من الله تعالى إلى الناس، فهو نبي ورسول لهم آمنوا أم لم يؤمنوا، وبذلك تكون النبوة والإمامة وظيفة ثابتة لصاحبها قبل بذلك المكلفون أم لم يقبلوا . ومن هنا قال قيس:
وعليٌّ إمــــــــــــامنــــــــــــــــــا وإمــــــــــــــــام * لسوانا أتى بـــه التنزيــــــــــــــل
ثمَّ ينصُّ قيس بن سعد (رضوان الله عليه) على أنَّ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام) إنَّما كانت بأمر الله تعالى، أتى بها الوحي المنزل منه جلَّ وعلا، وبذلك فإنَّ قيس ينصُّ على أنَّ الإمامة منصبٌ إلهي يتكفَّل به الله تعالى، وهو من يلبسه لمن يشاء من عباده، وعلى هذا الأساس لا وجود لنظرية الشورى في فهم قيس (رضوان الله عليه)، وكذلك لا وجود لمفهوم اختيار الأمَّة لإمامها .
ثمَّ يؤكِّد قيس بن سعد (رضوان الله عليه) على أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك الأمَّة من دون أن ينصِّب لها إماماً لها وراعياً لشؤونها، فينصُّ على حادثة الغدير التي نصَّب بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي خليفةً للأمَّة من بعده بخطبةٍ مشهوره رواها الفريقان . ثمَّ يقطع قيس دابر التأويلات التي حامت حول لفظة (الولي) الواردة في حديث الغدير في قوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، ويؤكِّد على أنَّ المراد من (الولي) هو الإمام دون غيرها من المعاني الأخرى .
وفهم قيس لحديث الغدير من الأدلة والبراهين الناصعة على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكذلك يُعدُّ حجَّة على جميع الأمَّة، وذلك لأنَّ قيس بن سعد (رضوان الله عليه) من الصحابة الأجلاء، وهو ممَّن تلقَّى حديث الغدير من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك يُعدُّ الأقرب إلى النص بكلِّ ما يحمله من ظروف إنتاج ومستوى لغوي .
وبقي أن نشير إلى قضية مهمَّة أشار إليها قيس في أبياته وهي ما جاءت في هذا البيت:
إنَّ ما قاله النبيّ علـــى الأمّة * حتم ما فيه قــــــــــــال وقيــــــــــلُ
فقيس في هذا البيت ينصُّ على أنَّ ما يأتي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقين لا يمكن أن يناقش أو يتطرق إليه القال والقيل، لأنَّه لا ينطق عن الهوى .
وما قاله قيس في أبياته السابقة هو بعينه تعتقد به الشيعة الإمامية، فنحمد الله تعالى على سلامة الدين والعقيدة .
الهوامش:
([1])الطبقات الكبرى، ابن سعد:6/121 ، الثقاة، محمد بن حبان: 3/339 ، كتاب الولاة وكتاب القضاة، محمد بن يوسف الكندي: 1/19 ، رجال البرقي:63 ، الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم:7/99 ، معجم الصحابة، عبد الباقي بن قانع: 2/346 ، فتح الباب في الكنى والألقاب، محمد الأصبهاني: 1/460 ، معرفة الصحابة، أبو نعيم الأصبهاني: 4/2308 ، الأبواب (رجال الطوسي)، الشيخ الطوسي: 79 ، تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي :1/529 ، تاريخ دمشق، ابن عساكر: 49/396 ، جامع الأصول، ابن الأثير: 12/ 729 ، مختصر تاريخ دمشق: الوافي بالوفيات: ، خلاصة الاقوال، العلامة الحلي:1/217 ، تهذيب الكمال، يوسف المزي: 24/40 ، الفوائد الرجالية، السيد بحر العلوم:2/125-126 ، تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني: 8/335 ، الأعلام، الزركلي: 5/206 ، الكنى والالقاب، عباس القمي: 3/174
([2])الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر:2/594، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير:2/441
([3])عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة دفع سعد بن عباده ابنه قيس إلى رسول الله ليكون خادماً عنده . ينظر: مسند أحمد: 24/228 ، سنن الترمذي: 5/570 ، السنن الكبرى، النسائي: 9/139 ، المعجم الكبير: 18/351 ، المستدرك على الصحيحين: 4/323 ، شعب الإيمان: 1/444 .
([4])خصائص الأئمة، الشريف الرضي: 43 ، أقسام المولى، الشيخ المفيد: 36 ، الفصول المختارة، الشيخ المفيد: 291 ، رسالة في معنى المولى، الشيخ المفيد: 20 ، كنز الفوائد، أبو الفتح الكراكجي: 234 ، الاقتصاد، الشيخ الطوسي: 221 ، مناقب آل أبي طالب: 2/230 ، الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي: 402 ، كتاب الأربعين، محمد طاهر القمي الشيرازي: 69 ، بحار الأنوار: 37/150 ، أعيان الشيعة: 8/457.