خُطَى الخزاعي
ما أن يتراءى للباصرة شيءٌ من وهج قبة طوس العلياء، إلّا وترتسم ملامح رحلة خطتها يد شأن غالبة، في كل محطة من محطاتها يتجلى معنى وتنكشف حقيقة فتشكل بكلها طيفًا ملونًا يمتد وأفق الفكر، منطلقه والحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من سنة (148هـ) في مدينة النبي المنورة، حيث احتفاء البيت النبوي بوليده الميمون([1])، ذاك الذي كان الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) يتوق لرؤيته، ويبشِّر بمقدمه، قائلًا غير مرَّة لأبيه الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه)): إنَّ عالم آل محمّد لفي صُلبك، وليتني أدركته، فإنَّه سميّ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام))([2])، فنشأ (صلوات الله وسلامه عليه) آدميَّ الهيأة، ربانيَّ العُلا، وعند محطة إمامته ارتقى في سموه شمسًا لا كالشموس، واقترب في دنوه أنيسًا للنفوس، فقوَّم الأود وشخَّص الانحراف وأهله، ليرتحل بعدها مستجيبًا إلى الإرادة الفوقية الممضاة على أيد الظالمين إلى حيث سلطان مملكته، تلك المملكة التي أعلن عنها على أرض نيسابور قبل اشخاصه إلى طوس، كاشفًا عن علامة سلطانه عليها بانسدال سلسلة الذهب من السماء إليه برواية الأزل، إذ قال معلنًا في أهلها: (سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول: سمعت الله (عزَّ وجلَّ) يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي، فلمَّا مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها)([3])، كاشفًا عن حقيقة سلطانه الإلهي بوصفه قيد تحقق التوحيد، ومن ثم شرط في دخول مملكة الإله...
وعند كلِّ خطوة صوب طوس كان يتصرم بقدرها زمن غربة ووحشة ألفته هذه المدينة، وما أن حلَّ ربوعها حتى أعلنت عن توديع سنيَّ غربتها، وهامشية هويتها مستقبلة سنيَّ المجد والانتماء إلى حيث أعالي الشرف بمقدم السلطان، وهناك توالت الآيات والتأييدات فصارت حكايات تألفها الناس، ومن ثم تتناقلها في أحاديث مجالسها، فمن سحابة تمشي حيث يشاء، وتصب وابلها متى ما أشار منعشة بفضله رمق الأرض والناس([4])، إلى مناظرات ومحاججات أخرست المتحذلقين من أهل الغواية والضلال([5])، ثم حنكة ودراية في التعاطي مع مخططات الظالمين وأفشالها([6])، فصار لزامًا على القرائح المنصفة أن تشدو بمناقبه ومناقب آبائه وتتغنَّى بجميل فضائله، وممَّا قيل فيه وفي آبائه([7]):
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أين ما ذكروا
من لم يكن علويًا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر
فالله لما برا خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور
وعند ختام رحلة الفكر لم يرَ سوى إرادة إلهية حكمت في اشراقة شمس الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) في أرض طوس إحدى عتبات مملكة الإله، بنتيجة عكسية لما خططه الظالمون ففضحت زيفهم وأُبطلت تمحلاتهم، فتمر الأزمان وتتقادم الأجيال، ولم تزل القلوب تهفو والآمال تعقد والأبدان تقصد صوب قبة طوس العلياء حيث نزيلها سلطان مملكة الإله.
الهوامش:
[1])) ينظر: الانوار البهية: الشيخ عباس القمي (ت: 1359):209.
[2])) إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 2/65.
[3])) الأمالي، الشيخ الصدوق، (ت: 381): 305-306.
[4])) ينظر: مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني (ت:1107): 7/138-139
[5])) ينظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام )، الشيخ الصدوق (ت:381): 1/139 وما بعدها.
[6])) ينظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام )، الشيخ الصدوق (ت:381):1/29.
[7])) ينظر: إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي(ت : 548): 2/65.