الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين المبلغ الأمين أبي القاسم محمد، وآله الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبعد...
لا شك أن الكلام عن حديث الغدير حديث ذو شجون وحسرة، فبالوقت الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) وليا وخليفة له بعد رحيله عن عالم الدنيا، نجد أن أمته قد ضيعت هذا الجهد العظيم الذي بلغه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أن فارق الدنيا، إذ انقلب جمع من أصحابه على هذا التبليغ ورسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجىً على المغتسل، فباردوا إلى تقسيم الحكم والسيطرة عليه (لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا)([1])، هذا الضرع الذي تشطره إثنان مع صاحبيهما، فكان الأول خليفة وصاحبه قائدا لجيشه، وبعدها أوصى للثاني خليفة وصاحبه كان قائدا لجيشه، وهذا هو التشطير الذي حصل في الخلافة.
وعودا على بدء فحديث الغدير إنما هو أمر إللهي مرتبط بالوحي قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)([2])، فهذا الأمر العظيم الذي تتوقف عليه الرسالة المحمدية، وإن لم يبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله) فما بلغ رسالته، وكأنه ثقل الرسالة فمن دونه لا وجود لها، وإذا ما أنعمنا النظر في الآية نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر لفظ الناس بقوله (والله يعصمك من الناس)، فالمراد بهذه اللفظة على وفق سياق الحال آنذاك هم أصحابه الذين كانوا حاضرين وسمعوا هذا التبليغ، فلفظ الناس لا يدل على المشركين لأن الشرك قد قُضي عليه قبل نزول هذا الأمر، وعليه يكون المقصود به المنافقين من أتباعك الذين لا يروق لهم هذا الأمر.
والخطاب القرآني بصيغة الجمع الموجه لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) نجده في آية لها ترابط وثيق بما سبق وهي قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)([3]).
فقد حذرهم الله سبحانه من أنهم سينقبلون على أعقابهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والخطاب بصيغة الماضي لوجوب تحققه، وإن كان الحدث في المستقبل، فالقرآن الكريم يخبر عن المستقبل بصيغة الماضي لقطعية وقوعه، فكيف يكون ذلك الإنقلاب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهل هو ما يعرف بالردة التي حاربها أبو بكر، أو هو غيره، والجواب على ذلك أنه ليس بحروب الردة؛ لأنها لم تكن على الذين انقلبوا على أعقابهم وأنكروا الرسالة السماوية، وإنما على المعارضين لحكم السقيفة ومن طالب برجوع الخلافة إلى من نصَّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهم ليسوا بمرتدين، وإنما التزموا بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعليه كان قتالهم لأنهم عارضوا حكم السقيفة، وخير دليل على ذلك حادثة مالك بن نويرة (رحمه الله) وكيف نُسفت كل القيم والتعاليم الإسلامية فيها، مما يدل على ارتداد أصحاب السقيفة عن الرسالة الحقة، وعدم تطبيقهم لحدودها، وتعاليمها.
وعليه يكون المراد من ذلك أنهم ينقلبون على ما أمرهم الله به من الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع عدة، أوضحها يوم الغدير وأدحضها للحجج، إذ لم يترك لهم بعده حجة، روي عن مولاتنا الزهراء (عليها السلام) قالت: (وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحد عذرا)([4]).
وهذا الانقلاب لم يكن الأول فالآية الكريمة أشارت إلى أميرين، وهو (أفإن مات أو قتل)، فمن هو المقتول في الآية، لأن الله سبحانه وتعالى عالم الغيب، ويعلم ما سيؤول إليه مصير النبي (صلى الله عليه وآله) كان يموت أو يقتل، فلماذا جمع بين الموت والقتل، وإذا ما تفحصنا التاريخ نجد مصاديق هذه الآية قد تحققت بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ انقلبت الأمة مرة أخرى على آل بيت النبوة ممثلا بالإمام الحسن(عليه السلام) وذهبت باتجاه حكم السقيفة الذي مثله معاوية، وهكذا يكون إن مات النبي (صلى الله عليه وآله) انقلبتم على أعقابكم بترككم آل بيت النبوة الذين نزل بهم التبليغ، وعدم ولايتكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) المنصَّب في الغدير، ومن ثم توالي ذلك عليكم بانقلابكم على أعقابكم بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعاد الأمة الإسلامية إلى سابق عهدها في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يرق ذلك لأكثر الناس فعادوا وانقلبوا على أعقابهم، لانه حملهم على طريق الحق يعرفونها كما قال عمر فيه([5])، فقد كانوا يخافون ذلك وهو السير على منهج النبي (صلى الله عليه وآله) في الحكم وتطبيق الشريعة بكل ما تحمله من قيم وتعاليم، وهذا ما لا يرغبون فيه، إذ إنهم يريدون أن يعودوا إلى سابق عهدهم الذي كانوا عليه في الجاهلية وهذا ما عمل عليه حكام السقيفة، ومن ثم جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ليعيد بناء ما خربته السقيفة ويعيد الأمور إلى ما كانت عليه في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكن ذلك لم يدم حتى عادت الأمة للانقلاب على عقبيها بعد استشهاده.
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يثبتنا على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ويجعلنا معه في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء.
الهوامش:
[1])) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.
[2])) سورة المائدة: 67.
[3])) سورة آل عمران: 144.
[4])) الخصال: 173.
[5])) الأحكام السلطانية والولايات الدينية: 12.