عليٌّ... تجلٍ في العدل الإلهي

مقالات وبحوث

عليٌّ... تجلٍ في العدل الإلهي

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 12-03-2020

خُطَى الخُزَاعي
 قُبح المفاضلة بلا مرجحات حكم من أحكام العقل المستقلة عندنا بلا تأثير من دين أو تلقين منه، وأنَّ هذا الحكم العقلي له ارتباط بأصل عقدي مهم كاشف عن صفة جمالية في الله تبارك وتعالى ألا وهي صفة العدل الإلهي، وقد بيَّن المولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) مفهوم العدل بقوله: ((العدل يضع الأمور مواضعها)) ([1]).
فالعدل يقتضي مراعاة الحاجة والقابليات والمصالح الواقعية، والمفاضلة بمرجح مصداق مهم من مصاديق العدل الإلهي ومن أبرز تجلياته، وبيان ذلك أنَّ الله تعالى قد أوجب على نفسه في التفضيل بين البشر ومن ثَمَّ إسناد المسؤوليات إليهم على أساس ما يمتكلون من صفات وقابليات مميزة، يفتقر إليها ما سواهم من الناس أولًا، وأنَّ تلك المؤهلات تتناسب والمهام الإلهية التي ستناط بهم ثانيًا؛ أي أنَّ الانتخاب لابُدَّ أن يتجه صوب ذي المرجحات المطلوبة بعيدًا عن مفتقدِها، وبخلاف ذلك سيكون الأمر في غير موضعه، فيخرج عندها عن حدِّ العدل إلى دائرة الجور، والجور قبيح عقلًا وذات الله (سبحانه وتعالى) منزهة عن فعل كل ما يستقبح، وما اختيار الأنبياء والمرسلين إلّا ممارسة عملية لهذا الحكم العقلي الإلهي، الذي سيتعدى بداهةً إلى كل من تقع مسؤولياته في طول المسؤوليات الإلهية لرسل الله تبارك وتعالى.
وبناءً على ما تقدَّم نقول أنَّ تقديم أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على غيره بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخلافة الإلهية لم يكن عبثًا بلا ضابط؛ بل ضابطه سيل من المرجحات التي حُصرت في شخصه الشريف والقابليات اقتصرت على نفسه المقدسة، فكان تقديمه على من سواه أمر عقلي بصرف النظر عن النص في ذلك، ثمَّ تواتر النص بعد ذلك ملزمًا العقلاء بأحكامهم وموثِّقًا الحجة عليهم بتدوين مرجحات أفضليته الموجبة لتقديمه على من سواه، وسنتعرض إلى بعض توثيقات القرآن الكريم المفسَّرة به -على لسان المعصوم (صلوات الله وسلامه عليه)- على نحو الأفضلية والسبق، والبدء من العلم بوصفه من أوليات الفضائل واثبات أنَّه أفضل العالِمين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كقوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[2]، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((ذاك أخي علي بن أبي طالب))([3])، وإن لفظة العلم المضافة إلى الكتاب دالة على أن العلم المقصود هو كمال العلم وتمامه إذ إنَّ الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، فيكون من المستقبح عند العقلاء تقديم ناقص العلم فضلًا عن الجاهل على من حاز العلم كله، فيكون المولى (صلوات الله وسلامه عليه) الأولى بمحل الخلافة؛ بل هو الفرد الحصري لها دون غيره من الصحابة عقلًا ونصًا، ومع مرجح الفهم وعدم النسيان وأنَّه أفضل من وعى دين الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾[4]، قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): هي أُذنك يا علي([5])، وبنقل آخر قال النّبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): سئلت الله (عزَّ وجلَّ) أن يجعلها أُذنك يا عَلِيّ([6])، فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): فما سمعت من رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم شيئًا فنسيته)([7])، وثالث المرجحات الموثقة قرآنًا؛ الشهادة على الدين والرسالة، وأنَّه أول الشهود وأفضلهم، فقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾[8]، ((عن ابن عباس قال: "أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم "وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ" عَلِيّ خاصّة [صلوات الله تعالى وسلامه عليه]))([9])، وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ((أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الشاهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على بينة من ربه))([10])، وما حدث المباهلة إلّا تطبيق عملي نبوي لذلك، فلو كان غيره مستأهلًا لمقام الشهادة على الدين لقدَّمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنصارى نجران، وعن فضيلة الجهاد وحيازته رتبة أفضل المجاهدين وأسبقهم لنصرة الله ورسوله كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[11]، عن ابن عباس قال: ((نزلت في عَلِيّ (عليه السَّلَام) ليلة بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)))([12])، وذكر ابن أبي الحديد أحد شراح نهج البلاغة: ((وقد روى المفسرون كلهم أنَّ قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...﴾ أنزلت في عَلِيّ (عليه السَّلَام) ليلة المبيت على الفراش))([13]). وتشهد له (صلوات الله عليه) ميادين الحروب وغبرتها بصولات وكرَّات هزمت الكتائب وفرَّقت الجيوش وأحرزت الإنتصارات تلو الإنتصارات حتى لكأنَّ النصر قد عقد حصرًا بلوائه الشرف فيبارك الرب جهاده ويصدح جبرئيل بين السماء والأرض مكبرًا شجاعته وتفانيه بندائه: ((لا سيف إلا ذوالفقار ولا فتى إِلّا عَلِيّ)) في الوقت الذي كان التخاذل والجبن حليف آخرين، ومقام آخر له (صلوات الله عليه) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[14]، عن أبي جَعْفر (صلوات الله عليه) قال: ((رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المنذر وعلى الهادي والله ما ذهبت منّا وما زالت فينا إلى الساعة))([15])، فالهادي أولى من المهتدي فضلًا عمَّن ضل وأضل هكذا دأب العقلاء وساروا، والختام مع جامع الأفضلية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾[16]، عن النَّبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): ((أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ))([17])، فيثبت القرآن وتشخص السنة الوصف به فيجمع كل الفضائل والمناقب على نحو الأفضلية والكمال، وغيرها العشرات من الآيات القرآنية الشريفة المعضدة بالسنة المطهرة للرسول والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، الكاشفة عن أهلية أمير المؤمنين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) ومرجحاته التي بها قُدِّم لمقام خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد رحيله حصرًا ثم بنيه من بعده، علمًا أنَّ تفاسير بعض من هذه الآيات وكثير من الأخبار النبوية في أفضلية أمير المؤمنين وأسبقيته قد دونتها كتب أهل الخلاف وتناقلتها مصادرهم بالقدر الذي سيحجهم يوم القيامة أمام الله تعالى في يوم مساءلة وجزاء، وخير القول قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[18].
والحمد لله رب العالمين حمدًا متصاعدًا مع نعمه التي أعيت الإحصاء حصرًا؛ بل عدًّا، ذروته حيث تمامها بولاية المولى أمير المؤمنين (صلوات الله سلامه عليه)...
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 553.
[2] الرعد:43.
[3] الأمالي، الشيخ الصدوق: (ت: 381): 659.
[4] الحاقة: 12.
[5] الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329):1/423، ح57
[6] كنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي (ت: 449): 265. 
[7] كنز العمال: المتقي الهندي (ت: 975): 13/177.
[8] هود: 17.
[9] كشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي) (ت: 427): 5/162.
[10] الكافي: 1/190، ح3.
[11] البقرة: 207.
[12] تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي (ت: 352): 65.
[13] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت: 656): 13/262.
[14] الرَّعد: 7.
[15] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفّار) (ت: 290): 50.
[16] البيّنة: 7.
[17] جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ): 24/542.
[18] الأعراف: 179.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3749 Seconds