فلسفة الصمت في كسب محاسن الكلام

مقالات وبحوث

فلسفة الصمت في كسب محاسن الكلام

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-07-2020

الاستاذ الدكتور هاشم حسين ناصر المحنك
مدير مؤسسة أنباء للدراسات والنشر
سابقاً عمل في جامعة بابل وجامعة الكوفة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين...
من الدروس التي يحتاجها كل إنسان وصولاً إلى مستوى المجتمعات والدول، ولمختلف الأنشطة والفعاليات، ويحقق استدراكاً لصلاح وإصلاح الفكر – النفس والمنطق وتحقيق القوة المضافة، ويكون ذلك باتِّباع سبيل الصمت الذكي، الذي غالبًا ما يأخذ بفلسفته وأساليبه النفسية، محاسن ومكاسب الكلام ومواقعه المتقدمة، الذي من الممكن أن يعالجه ما يمكن تسميته علم الصمت، وعلم نفس الصمت، الذي يعالج الإنسان من الداخل، وما يمر من سلامة توجهاته الفكرية – السلوكية، وما يمكن أن يسهم في المجالات الإعلامية؛ لاعتبارات متعددة توقيتية وموقعية وموقفية، ولذا يظهر للصمت :
* ما يتعاظم منافعه بين الإستراتيجية، والتكتيك، والتخطيط، والقرار..
* استقراء الوضع في البيئة الداخلية والبيئة الخارجية، واستيعاب الوضع ودراسته وتحليله للإفادة منه ..·
* عدم التعجل في الرأي غير الدقيق أو الرأي الخاطئ وارتجالية القرار ، ويبدأ من حفظ صاحبه مثلاً ؛ من سخط الأصدقاء وفقدانهم ، وما يُغير من موقف الأعداء ، أو حتى استكمال الصورة ودراستها بموضوعية وإبداء الرأي المناسب ..

* الاستعجال في الكلام أو إبداء الرأي غير المخطط له، قد يولِّد الخلافات والمشاكل، أو يجعل الإنسان متناقض في مواقفه وآرائه، والصمت أيسر من تدارك الرأي واسترجاع ما سبق إلى غير الصواب من الكلام ..
((وَتلافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ))([1]) .
 وفوات الأوان يتحدد بالتوقيت عند النطق بالقول أو الحكم ، وربما يجر إلى مصائب تلحق بالشخص ومن يحيطون به ، وهو خلاف الصمت المناسب الممكن استدراكه وعلاجه بسهوله ، أو جعل الصمت بحد ذاته جواباً ، وهو من باب الوقاية خير من العلاج ، إن كان للكلام الخطر له علاجاً..
 ورُبّ كلمة تنهي حياة إنسان أو مجتمع، أو تخلق الصراعات بين الأفراد أو المجتمعات أو الدول، ولذا يعذر غالبا الصامت في مواضعه ، ولا يعذر المتكلم في غير مواضعه والتوقيتات والمواقف المخطوءة ، وبذا فإنَّ حفظ ما في العقول بضبط منافذ كشف الأسرار ، كاللسان والجوارح الأُخر ..
وهو ما يظهر في درس؛ ((وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ))([2])، المرتبط بالدرس الآخر؛ ((وَتلافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ))([3]) .
 وكلاهما؛ الطمع والنطق في غير توقيته وموقعه وموقفه، نتيجتهما الهلاك بالعجلة والانسياق وراء الجهل..
ومتابعة سلسلة: (الطَّمَعِ، الْهَلَكَةِ)، المرتبط بالدرس الآخر؛ (فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ)، (فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ) .
 و(حِفْظُ)؛ ما يتعلق بالماديات وغير الماديات، (الْوِعَاءِ)؛ سعته وسلامته، (الْوِكَاءِ)؛ ما يحقق حفظ الأمن، ومنه الاقتصادي والاجتماعي..
ومما يستدلُّ منها على أهمية المعلومات ومصادرها وسلامتها، وأهمية الحفاظ عليها ، وأهمية حراك المعلومات ، وأهمية العلم والمعرفة ، وأهمية التوافق بين التوقيت والموقع والموقف ، وأهمية رأس المال الفكري ، وأهمية الجانب الإعلامي وخطورته ، وأهمية الأسرار ومستوى ثقافة حاملها ، والأهمية الاقتصادية – الاجتماعية ، وأهمية النظرة الإستراتيجية والتكتيكية في ضوء التخطيط والقرارات .. وما يُكامل ذلك، وتواصل أسس بناء كرامة الإنسان وصيانتها، وما مطلوب من الإنسان في سلوكه ، وأسلوب التوازن في مكونات الحياة المادية وغير المادية ، مع مراعاة التعامل مع المجتمع أو الآخرين ، بما في ذلك توجهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الكريمة ، البعيد عن التفريط والتبذير .. وهو مضمون من مضامين قول الإمام عليه السلام:
((وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ))([4])
لأن حفظ أو حماية الشخص لِما في يده ، سواء كانت أموال متعددة الأشكال والمضامين والملكية أو غير ذلك ، فإنها تتطلب عقلانية ما مطلوب من الحماية الإنفاقية المستدامة والتنموية والتطويرية بشقيها؛ الإنفاق الاستثماري والإنفاق الاستهلاكي، وما يتطلب من خطط وقرارات مدروسة وذكية ، بعيدة عن السلوك الإنفاقي غير المبرمج ، المؤدي بتعاظمه إلى هلاك ما في اليد من أموال ومعلومات وفرص ، وربما هلاك الشخص الحقيقي أو المعنوي ، ويظهر عند مؤشر الحاجة والإشباع ، وكرامة الإنسان ومستوى تبعيته ..
ويعقبها ذل الاستعانة بغير الله ، ومن صُوَرِها ما يتمثل في الأزمات الاقتصادية وتعدد صورها وسعة ما يلحق بالفرد والمجتمع والدولة ، منها ما يدخل ضمن أزمات ؛ سياسية – اجتماعية ، وتهديد في الأمن الغذائي وأمن المجتمع والدولة ، وما يترتب على الدورة الرئيسية ؛ للدخل ، الاستهلاك ، الادخار ، الاستثمار ، وحتى يمتد ليشمل التأثيرات النفسية – السلوكية بتعدد أوجهها ونطاقها وشخوصها ، وأساليب التفكير والنتائج ..
ولابدّ من التنويه بأنّ قول : ( وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ ) ، يختلف مثلا عن لو قلنا : ( ومنع ما في يديك ) ، لأن ( المَنْعُ ) ؛ أَن يَحُولَ بين الشخص وبين الشيء الذي يريده ، وهو خلافُ الإِعْطاءِ ، وربما يكون المنع ناجم عن عِلّة ما ، كأن تكون العلّة فكرية أو نفسية أو تربوية أو أخلاقية ، وربما يؤدي إلى تعطيل جانب من مجالات الأنشطة الحياتية ، وصورة منه سلوك البخيل أو الشحيح..
أما ( الحفظ ) ؛ فيُبنى على أساس الأمانة والحماية والمراقبة، ومضمونه الاقتصادي ؛ وقائي بتوجهه الادخاري – الاستثماري ، وبتوجُّه مدروس وعقلاني ورشيد ، وبمنظور استراتيجي مخطط له، بما فيه حماية الشيء من الضياع أو التلف أو الهلاك ، وصيانته من الابتذال أو الإذلال ، وبخصوص الأموال ، يتم إدارتها وحراك إنفاقها بعقلانية ، لمنع ضياعها أو تشتتها ..
 وحلقة أخرى ترتبط وتكمِّل الآنف الذِّكر ، ألا وهي حماية أو صيانة كرامة الإنسان عند الحاجة؛ ( وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ ، خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ ) ..
 وربما تكون المرارة ؛ المنبِّه ، والعامل المحفِّز ، وقوة الإرادة والصبر ، لبحث منفذ للخروج من طائلة الحاجات والمشاكل والأزمات وذل السؤال ..
وعن طريق هذه المعادلة والمبدأ الإنساني ، يتحقق للإنسان إنسانيته وعزّة نفسه واستثمار قدراته ، وتنمية أخلاقية الحاجة وثقافتها ..
وإن اليأس ، له مضامين وامتدادات نفسية وتربوية ، ومما يتضمن أن هناك مشكلة أو أزمة ، وربما على المدى القصير ، لا حلول ولا بدائل لها ، بسبب معوقات ، منها ما يتعلق بالتفكير التقليدي والبحث والآليات والوسائل ..
وعلى الرغم من مرارة اليأس ونسقها وضبطها ، وما تحمله من ضغوطات نفسية ، وما يترتب من متطلبات الصبر والثبات ، والعمل المتواصل للتخفيف من وطأتها ، وما يمتد بانعكاساته على السلوك ، فهو أرحم بكثير من الطلب لما في أيدي الناس؛ لكونه يبتعد بالشخص عن التبعية بكل أشكالها ..
ويتكامل مع الدرس الآخر العظيم والعميق والأخلاقي الممتد من:
(وَلا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً)([5])
وهو النبض الحياتي المتدفِّق والمستمر بحلقاته المتلاحقة لكينونة وماهية كرامة الإنسان وحراكه ، وامتداد عروقها ونبضها في كل مناحي الحياة ..
هذا المكون والجعل التكويني – التشريعي ، وما يكون عليه الإنسان من الجعل الوجودي – الأدائي ، وعمق العمليات ضمن خارطة حياة الحقوق والحرية والعبودية ، ومنها ميزان القوى بين الشكل والمضمون ، والحاجة والطلب ، بشقَّي الجعل: المنظور وغير المنظور ، ووقعه للاعتداد بالنفس وتماسك مكونات الشخصية ، وما يُبنى من العلاقات على الصعيد الشخصي والطرف الآخر ، وامتداده من الذات الفردية مع كينونتها ، حتى الوصول إلى أعلى مستويات العلاقات الإنسانية بين الشعوب ، وما تفرزه العلاقات الدولية بين الأنظمة والمنظمات والدول ، وما يترتب من إستراتيجيات وسياسات ..

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 402 .
([2]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 401 .
([3]) المصدر نفسه: 402 .
([4]) المصدر نفسه .
([5]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 401 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2739 Seconds