بقلم السيد نبيل الحسني.
((الحمد لله الذي لا تدركهُ الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر))[1].
وصلواته التامات الزاكيات على حبيبه محمد ((عبُدهُ الصَّفيُّ، وأمينهُ الرَّضِيُّ أَرْسَلَه بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وظُهُورِ الْفَلَجِ وإِيضَاحِ الْمَنْهَجِ))[2].
وعلى أهل بيته ((أساس الدين وعماد اليقين))[3].
وبعد:
فان القراءة المتأنية في مصادر السيرة ومراجعها تكشف عن تفاوت كبير في الروايات التي ذكرت عمر خديجة (عليها السلام) حين اقترانها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان العمر الذي ابتدأت به هذه الروايات (خمساً وعشرين سنة)([4]).
بينما العمر الذي انتهت به كان (ستاً وأربعين سنة)([5]) ومن خلال هذا التفاوت نلمس انه هناك حقيقة ضائعة وهي التي تحدد لنا حقيقة عمرها حينما تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكي نتمكن من الوصول إلى هذه الحقيقة اعتمدنا على الأمور التالية:
1 ـ رواية البيهقي (المتوفى سنة 458هـ)
ذكر البيهقي في الدلائل: أن عمر خديجة (عليها السلام) حين الوفاة كان (خمسين) سنة، ولقد عدّه العمر الصحيح وهذا قوله: (لقد بلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح)([6]).
2 ـ رواية الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة 774هـ)
ولقد اعتمد الحافظ ابن كثير أيضاً على رواية البيهقي، إذ ذهب إلى أن عمر خديجة (عليها السلام) حين الوفاة كان خمسين سنة([7]).
3 ـ رواية الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405هـ)
أما الحاكم النيسابوري فقد عدّ القول الذي ذكر أن عمر خديجة حين الوفاة كان خمساً وستين قولاً شاذاً وأضـاف: (إنّ الـذي عندي أنها لم تبلغ الستين سنة)([8]).
4 ـ رواية محمد بن إسحاق المطلبي صاحب السير (المتوفى سنة 151هـ)
لكنّ الحاكم النيسابوري قد بيّن العمر الذي بلغته خديجة حين الوفاة وذلك من خلال الرواية التي أخرجها عن محمد بن إسحاق الذي ذكر أن خديجة كان لها يوم تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمان وعشرون سنة، ولم يذكر سواها.
وهذا يعني أن عمرها حين الوفاة كان اثنين وخمسين سنة، لأن الفترة التي عاشتها خديجة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت خمساً وعشرين سنة([9]).
أي: إن محمد بن إسحاق يشير إلى أن عمر خديجة (عليها السلام) حين الوفاة كان: اثنين وخمسين سنة.
5 ـ رواية الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571هـ)
أما ابن عساكر فقد ذكر: أنها توفيت عن عمر ناهز الخمس والخمسين سنة([10]).
إذن:
هذه الأقوال تدل على أن العمر الذي بلغته أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) حين الوفاة كان في الخمسين، فلْنأتِ الآن وننظر إلى أقوال المؤرخين في تحديد السنة التي توفيت فيها كي نصل إلى معرفة السنة التي تزوجت فيها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكم كان لها من العمر حين الزواج؟.
أولاً: وفاتها في السنة العاشرة من البعثة.
ذكر أكثر المؤرخين أن خديجة توفيت في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين([11]).
وهذا يعني: أن عمرها حينما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أربعين سنة، وهو العمر الذي بعث فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
بمعنى أدق: أنها كانت بعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثانيا: زواجها قبل البعثة بخمس عشرة سنة.
أما عمرها حين الزواج فقد ذكروا: «أنها تزوجت قبل البعثة بخمسة عشر عاماً»([12]) مما يدل على أنها حينما اقترنت بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عمرها خمساً وعشرين سنة؟
لأنها (عليها السلام) عاشت مع النبي الأكرم (خمساً وعشرين) سنة منها خمس عشرة سنة قبل البعثة وعشر سنوات بعدها وتوفيت ولها من العمر خمسون سنة.
ثالثا: عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان خمساً وعشرين سنة.
وإذا أخذنا بأكثر الأقوال شهرةً في عمر النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تزوج بها (عليها السلام) وهو «خمس وعشرون سنة»([13]) فان عمر خديجة حين الزواج سيكون مساوياً لعمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
رابعا: إن عمره (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما تزوج خديجة (عليها السلام) كان خمساً وثلاثين سنة.
أما في حال الأخذ بالروايات التي ذكرت عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين الزواج كان (ثلاثين)([14]) و(خمسة وثلاثين)([15]) و(سبعة وثلاثين)([16]) فهذا يعني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكبر من خديجة (عليها السلام) عندما اقترن بها بـ:
1. خمس سنوات لأن عمرها كان خمساً وعشرين سنة وعمر النبي ثلاثين وذلك وفق الرواية الأولى.
2. أو انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر من خديجة بعشر سنوات على وفق الرواية الثانية.
3. أو أنه يكبرها بـ«اثنتي عشرة» سنة على وفق الرواية الثالثة.
وهو عكس ما ذكر من أنها (عليها السلام) كانت أسن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه:
فإننا نستدل من خلال ما ذكر أن عمر خديجة (عليها السلام) وقت الزواج كان خمساً وعشرين سنة وهو نفس العمر الذي بلغه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الزواج والذي قال به أكثر المؤرخين والمحققين وما نسخته أيدي أهل السير.
فضلاً عن أن كثيراً من المصادر قد ذكرت أن عمر خديجة (عليها السلام) كان «خمساً وعشرين»([17]) سنة؛ وبعضهم قد اقتصر على رواية واحدة وهي: أن عمرها كان (ثمانياً وعشرين)([18]) مما يدل على أنهم يرون أن عمرها كان مقارباً لعمر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لم يكن هو أكبر منها لما ذكر سابقاً.
أما ما ذكره البعض من أن أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) كان عمرها في الأربعين حين تزوجها النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها تزوجت قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رجلين لم تعرفهما شعاب مكة ولم تطأ أقدامهما بواديها.
فهو مما صاغته يد المتزلفة للحكام الأمويين وغيرهم من أصحاب الأغراض والأمراض ــ زادهم الله مرضا ــ وهو غيض من فيض مما عصفت به تلك الأكاذيب بمقدرات الإسلام والمسلمين.
الهوامش:
[1] نهج البلاغة بتحقيق الشيخ قيس العطار: ص 415 ط العتبة العلوية.
[2] المصدر السابق: ص 416.
[3] نهج البلاغة: ص 83 ط العتبة العلوية.
([4]) دلائل النبوة للبيهقي: ج2، ص71. المواهب اللدنية للقسطلاني: ج1، ص200. والبداية والنهاية: ج2، ص294. السيرة الحلبية: ج1، ص140. مسار الشيعة، الشيخ المفيد: ص49. مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: ص791.
([5]) انساب الأشراف للبلاذري، قسم حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ص98.
([6]) دلائل النبوة للبيهقي: ج2، ص71.
([7]) سيرة ابن كثير: ج1 ص264. البداية والنهاية: ج2، ص234.
([8]) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج3، ص182.
([9]) تاريخ الخميس: ج1، ص264؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج1 ص296؛ التبيين في انساب القرشيين: ص71؛ السيرة النبوية لمحمد أبو شهبة: ج1، ص397؛ سمط النجوم العوالي: ج1، ص367؛ حدائق الأنوار للشيباني: ج1، ص155.
([10]) كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لابن عساكر الدمشقي: ص52.
([11]) التبيين في أنساب القرشيين: ص73؛ سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج1، ص367؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج1، ص296؛ الاصابة لابن حجر: ج7، ص605، ط دار صادر؛ المصنف لعبد الرزاق: ج7، ص492، ح14003، ط المكتب الإسلامي؛ القوانين الفقهية لابن الكلبي: ص408.
([12]) حدائق الأنوار: ج1، ص155؛ المواهب اللدنية: ج1، ص296؛ تاريخ الخميس: ج1، ص265؛ التبيين في أنساب القرشيين: ص71؛ سمط النجوم العوالي: ج1، ص367؛ البداية والنهاية: ج2، ص295؛ السيرة النبوية لمحمد أبو شهبة: ج1، ص397.
([13]) الوفا: ج1، ص145؛ تاريخ الخميس: ج1، ص263؛ التاريخ الصغير للبخاري: ج1، ص43؛ العقد الثمين: ج1، ص224؛ زاد المعاد: ج1، ص76؛ تهذيب الأسماء واللغات: ج1، ص341، وغيرهم.
([14]) تاريخ الخميس: ج1، ص263؛ مختصر تاريخ دمشق، قسم السيرة النبوية: ص275؛ الروض الأنف: ج1، ص216.
([15]) الأوائل لأبي هلال العسكري: ج1، ص161.
([16]) العقد الثمين: ج1، ص224؛ تاريخ الخميس: ج1، ص263؛ المنتخب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير بن بكار: ص33.
([17]) المواهب اللدنية: ج1، ص200؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج1، ص265؛ السيرة الحلبية: ج1، ص140.
([18]) مستدرك الحاكم: ج3، ص82؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج3، ص183؛ بهجت المحافل: ج1، ص48؛ مختصر تاريخ دمشق لقسم السيرة النبوية: ص275.