من مقاصدية وصية الإمام علي (عليه السلام) في أمواله / اختلاف القصدية في تكرار لفظ (وجه الله) في الوصية/ أولاً: الإخلاص في النية

مقالات وبحوث

من مقاصدية وصية الإمام علي (عليه السلام) في أمواله / اختلاف القصدية في تكرار لفظ (وجه الله) في الوصية/ أولاً: الإخلاص في النية

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 27-04-2021

بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نِعَمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على حبيبه المنتجب ورسوله المصطفى أبي القاسم محمد وعلى آله أساس الدين وعماد اليقين.
وبعد:
اشتملت وصية أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في أمواله على جملة من العنوانات الشرعية والعقدية، فضلاً عن اكتنازها للعديد من المصاديق والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وهو ما ستعرض له عبر جملة من المقالات، وهي على النحو الآتي:
اختلاف القصدية في تكرار لفظ (وجه الله) في الوصية
اختلفت القصدية في إيراده (عليه السلام) للفظ (وجه الله) في الوصية؛ فاللفظ الذي جاء به (عليه السلام) في أول الوصية قائلاً:
«هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب امير المؤمنين في ماله ابتغاء وجه الله، ليولجني به الجنة...»[1] عن القصدية في قوله (عليه السلام):
«وأني أنما جعلت القيام بذلك الى أبنيّ فاطمة، ابتغاء وجه الله»[2]
فالقصدية في اللفظ الثاني كانت لبيان أن (وجه الله تعالى) هم أنبياء الله ورسله وحججه (عليهم السلام)؛ كما مرَّ بيانه.
أما القصدية في اللفظ الأول فهي تعني:
الإخلاص في النية والعمل، وتجنب محبطاته كالرياء والسمعة.
أولاً: الإخلاص في النية.
وهو أمر تكاثرت فيه النصوص الشريفة وأسست عليه قاعدة فقهية عند الفقهاء، وقد جمع قسماً منها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في الهداية في باب النية، فقال:
1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«إنّما الأعمال بالنيات».
2- وروي: «إنّ نية المؤمن خيرٌ من عمله، ونية الكافر شرٌ من عمله».
3- وروي: «إنّ بالنيات خَلُدَ أهل الجنة في الجنة، وهل النار في النار».
4- وقال عز وجل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ يعني: على نيته، ولا يجب على الانسان أن يجدد لكل عمل يعمله نية، وكل عمل من الطاعات إذا عمله العبد لم يرد به إلاّ الله عز وجل فهو عمل بنية، وكل عمل عمله العبد من الطاعات يريد به غير الله فهو عمل بغير نية، وهو غير مقبول[3].

وسنام هذه الأحاديث قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي كان اساساً لبناء قاعدة فقهية اعتمدها الفقهاء واسندوا اليها الاعمال التي يقوم بها الانسان المسلم.
وقد أجاد الشهيد الاول (عليه الرحمة والرضوان) (ت 786هـ) في بيانه للفوائد التي أكتنزتها هذه القاعدة والتي تُظهر مصداق أيراد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لفظ (إبتغاء وجه الله) في أول وصيته، ولاسيما تلك الفوائد الأولى التي أفاد بها الشهيد الأول في كتابه.
ولذا:
فقد كفانا المؤنة في البحث والدراسة للإظهار هذه القصدية فقد بذل جهده وعلى الله اجره.
قال (رحمه الله) في القواعد والفوائد في بيان هذه القاعدة، -اي: تبعية العمل للنية- وفوائدها:
(ومأخذها من قول النبي (صلى الله عليه وآله):
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرء ما نوى».
أي: صحة الاعمال واعتبارها بحسب النية؛ ويعلم منه أن من لم ينوِ، لم يصح عمله، ولم يكن معتبراً في نظر الشرع.
ويدل عليه -مع دلالة الحصر-: الجملة الثانية، فإنها صريحة في ذلك ايضاً.
وفي هذه القاعدة فوائد:
الفائدة الاولى:
يعتبر في النية التقرب إلى الله تعالى، ودل عليه الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[4]. أي: وما أمر أهل الكتابين بما فيهما ألا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة، فيجب علينا ذلك، لقوله تعالى: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[5].
وقال تعالى: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾[6]. أي: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، إذ هو منصوب على الاستثناء المنفصل وكلاهما يعطيان أن ذلك معتبر في العبادة، لأنه تعالى مدح فاعله عليه.
وأما السنة: ففيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في الحديث القدسي: (من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي)[7].

الفائدة الثانية[8]:
معنى الاخلاص: فعل الطاعة خالصة لله وحده وهنا غايات ثمان:
الأولى: الرياء، ولا ريب في[9] أنه يخل بالإخلاص. ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي، أو الانتفاع به، أو دفع ضرره.
فان قلت: فما تقول في العبادات المشوبة بالتقية؟
قلت: أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص، وما فعل منها تقية فان له اعتبارين: بالنظر إلى أصله: وهو قربة، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر، وهو لازم لذل، فلا يقدح في اعتباره. أما لو فرض إحداثه صلاة - مثلا - تقية فإنها من باب الرياء.
الثانية: قصد الثواب، أو الخلاص من العقاب، أو قصدهما معا.
الثالثة: فعلها شكرا لنعم الله واستجلابا لمزيده.
الرابعة: فعلها حياء من الله تعالى.
الخامسة: فعلها حبا لله تعالى.
السادسة: فعلها تعظيما لله تعالى ومهابة وانقيادا وإجابة.
السابعة: فعلها موافقة لإرادته، وطاعة لأمره.
الثامنة: فعلها لكونه أهلا للعبادة. وهذه الغاية مجمع على كون العبادة تقع بها معتبرة، وهي أكمل مراتب الاخلاص، وإليه أشار الإمام الحق أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بقوله: (ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)[10]. وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب[11] بكون العبادة فاسدة بقصدها. وكذا ينبغي أن تكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات.
والظاهر أن قصدها مجز، لان الغرض بها في الجملة، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثا على العبادة، أعني: الطمع، والرجاء، والشكر والحياء، لان الكتاب والسنة مشتملتان على المرهبات: من الحدود، والتعزيرات، والذم، والايعاد بالعقوبات، وعلى المرغبات: من المدح والثناء في العاجل، والجنة ونعيمها في الآجل.

وأما الحياء فغرض مقصود، وقد جاء في الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله): (استحيوا من الله حق الحياء)[12] و (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)[13]. فإنه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - وقد قال له ذعلب اليماني - بالذال المعجمة المكسورة، والعين المهملة الساكنة، واللام المكسورة -: (هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): أفأعبد ما لا أرى؟؟
فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بشاهدة الأعيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان، قريب من الأشياء غير ملامس[14] بعيد منها غير مباين، متكلم بلا روية[15]، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتوجل القلوب من مخافته)[16].
وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على أصول صفات الجلال والاكرام التي عليه مدار علم الكلام، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية، وتفسير معنى الرؤية، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن وإن لم يكن تمام الغاية، وكذلك الخوف منه تعالى.
الفائدة الثالثة:
لما كان الركن الأعظم في النية هو الاخلاص، وكان انضمام تلك الأربعة[17] غير قادح فيه، فحقيق[18] أن نذكر ضمائم أخرى، وهي أقسام:
الأول: (ما يكون منافيا)[19] له، كضم الرياء، وتوصف بسببه العبادة بالبطلان، بمعنى عدم استحقاق الثواب.
وهل يقع مجزئا بمعنى سقوط التعبد به، والخلاص من العقاب؟
الأصح أنه لا يقع مجزئا، ولم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الإمام المرتضى[20](*) قدس الله سره، فان ظاهره الحكم بالاجزاء في العبادة المنوي بها الرياء[21].
الثاني: ما يكون من الضمائم لازما للفعل، كضم التبرد أو (التسخن أو التنظف)[22] إلى نية القربة؛ وفيه وجهان ينظران: إلى عدم تحقق معنى الاخلاص، فلا يكون الفعل مجزئا، وإلى أنه حاصل لا محالة، فنيته كتحصيل الحاصل الذي لا فائدة فيه؛ وهذا الوجه ظاهر[23] أكثر الأصحاب[24]؛ والأول أشبه، ولا يلزم من (حصوله نية)[25] حصوله.

ويحتمل أن يقال: إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ التبرد عند الابتداء في الفعل، لم يضر، وإن كان الباعث الأصلي هو التبرد فلما أراده ضم القربة، لم يجز؛ وكذا إذا كان الباعث مجموع الامرين، لأنه لا أولوية حينئذ فتدافعا، فتساقطا، فكأنه غير ناو.
ومن هذا الباب ضم نية الحمية إلى نية[26] القربة في الصوم، وضم ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.
الثالث: ضم ما ليس بمناف ولا لازم، كما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية التقرب في الطهارة، أو إرادة الاكل، ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الأشياء، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف، وهذه الأشياء إن لم يستحب لها الطهارة بخصوصها إلا أنها داخلة فيما يستحب بعمومه؛ وفي هذه الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني، وأولى بالبطلان، لان ذلك تشاغل عما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه[27][28].
اذن:
يتضح من خلال هذه الفوائد التي أوردها الشهيد الاول (عليه الرحمة والرضوان) أن القصدية في قوله (عليه السلام):
«هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله إبتغاء وجه الله».
كان لبيان أرتكاز الأعمال على الاخلاص في النية وان من قوام الاخلاص وتحققه تجنب الرياء وذلك أن بعض الناس حينما.
يقدم على الأعمال المختلفة في أوجه البر والخير انما يقصد في ذلك أن يرائي الناس لينال المدح والثناء والسمعة بين الناس ويكسب الشهرة والجاه وغير ذلك مما تدعوا اليه النفس وتمني به صاحبها فلا ينال من عمله هذا الا الجهد والتعب والنفاد.([29]).

الهوامش:
[1]       نهج البلاغة: رسائله وكتبه برقم 24.
[2]       المصدر السابق.
[3]       الهداية: ص62.
[4]       سورة البينة، الآية (5).
[5]       سورة البينة، الآية (5).
[6]       سورة الليل، الآية (19-20).
[7]       رواه أحمد بلفظ: (أنا خير الشركاء من عمل لي عملا فاشرك فيه غيري فانا منه برئ وهو للذي أشرك) مسند أحمد: 2/ 301، 432وانظر أيضا: القرافي/ الفروق: 3/ 22 (باختلاف بسيط).
[8]       في (ك) و (م) و (أ): فائدة (من غير رقم) ولعل ما أثبتناه هو الصواب، لأنه يوافق عدد الفوائد المذكورة في هذه القاعدة، كما أنه يوافق الترقيم الوارد في (ك) من الفائدة العشرين وما بعدها.
[9]       زيادة من (ك) و (م).
[10]      لم أعثر على هذا في المراجع المتقدمة عن عصر المؤلف، وإنما رواه مرسلا كل من الفيض الكاشاني في/ الوافي: 3/ 70، والمجلسي في/ مرآة العقول: 2/ 101 (بتقديم وتأخير بين بعض فقراته).
[11]      انظر: العلامة الحلي/ المسائل المهنائية: ورقة 2 ب، و 32-23 (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة في النجف، ضمن مجموع برقم 1107).
[12]      انظر: صحيح الترمذي: 9/ 281.
[13]      انظر: المتقي الهندي/ كنز العمال: 2/ 6، حديث: 124.
[14]      في (ك): ملابس، وفي (م): ملاق، وما أثبتناه مطابق لما في نهج البلاغة.
[15]      في (ك): رؤية، وما أثبتناه مطابق لما في النهج.
[16]      انظر: نهج البلاغة: 2/ 120-121 (شرح محمد عبده) مطبعة الاستقامة بمصر.
[17]      وهي: الطمع، والشكر، والحياء، والرجاء.
[18]      في (ك): فخليق.
[19]      في (م) و (أ): ما تكون منافية.
[20]      (*) هو علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى الشهير بالسيد المرتضى ولد سنة 355ه‍ تقلد نقابة الشرفاء وإمارة الحج والحرمين والنظر في المظالم وقضاء القضاة توفي سنة 436ه‍. خلف بعد وفاته ثمانين ألف مجلد من مقروآته ومصنفاته ومحفوظاته. (القمي/ الكنى والألقاب: 2/ 445).
[21]      انظر: السيد المرتضى/ الانتصار: 17 (طبعة النجف).
[22]      في (ح): التسخين أو التنظيف، وفي (م) و (أ): التسخين والتنظيف.
[23]      في (ح) و (م) زيادة: عند.
[24]      انظر: الشيخ الطوسي/ المبسوط: 1/ 19، والعلامة الحلي/ منتهى المطلب: 1/ 56.
[25]      في (ك): حصول نيته.
[26]      زيادة من (م) و (أ).
[27]      انظر هذه الفائدة في الأشباه والنظائر/ للسيوطي: 23.
[28]      الشهيد الاول: ج1 ص75-80
([29]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فاطمة في نهج البلاغة، للسيد نبيل الحسني: ط: العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة. ص 260-268.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2833 Seconds