الغاية من الحكم في فكر الإمام علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

الغاية من الحكم في فكر الإمام علي (عليه السلام)

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-05-2021

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
من الممكن ادراك الغاية من الحكم في فكر الإمام علي (عليه السلام) من خلال نظرته الزاهدة في الحياة بحيث لا يمكن الفصل بين تصرفه الخارجي في معاملاته مع الناس، وبين إيمانه الداخلي، فهو ذو شخصية واحدة تمقت التلون وتنأى عن الازدواجية، فلا يأمر بطاعة الا ويوجبها على نفسه اولاً، ثم يطبقها على غيره بعد ذلك، ولا ينهى عن معصية الا وهو القدوة في تجنبها[1]، وعلى ذلك فهو فرد من افراد الأمة مساو في المنزلة لأي فرد من افرادها مهما كانت منزلته الاجتماعية لا لشيء الا لأنه قدوة، والقدوة مثال يجب ان يحتذى من قبيل الشرائح الواسعة بين طبقات الأمة، وبطبيعة الحال فإن الفقراء والمعدمين هم الكثرة الغالبة فمن المتوجب «على ائمة العدل ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره»[2]. ومساواة الإمام نفسه بأفقر طبقات الأمة ـ كما يرى الإمام علي (عليه السلام) ـ فرض من الله وليس محاولة لإرضاء شريحة من شرائح المجتمع، للتقرب إليها بالتزيّ بزيّها. لذلك يمكن اعتبار زهده وتقشفه من مستوجبات الإمامة، لأن في مقدوره وهو القائم بالأمر في الأمة الإسلامية ان يستمتع بملذات الحياة، فيأكل مصفى العسل مع الخبز المصنوع من لباب القمح ويلبس ألين الملابس وأفخرها[3]، ولكن شعوره بالمسؤولية يأبى عليه ذلك، فليس من العدل في مفهومه ان يشار إليه بالقول «هذا أمير المؤمنين ولا (يشارك امته) في مكاره الدهر، أو (يكون) اسوة لهم في جشوبة العيش»[4]فمن خلال التزامه بمبادئ الإسلام يرى ان الإمامة ليست منصباً تشريفيا غايته الملك والسطوة كما أثر عن معاوية في قوله لأهل الكوفة «اتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت انكم تصلون وتزكون وتحجون ولكن قاتلتكم لأتأمر على رقابكم»[5]. فقضية الإمامة أو بمعنى أصح، التحكم في رقاب العباد ـ كما يرى ذلك علي (عليه السلام) إذا لم تصدر عن اقتناع بمبادئ الإسلام، مع خلوها من أية اطماع دنيوية، أو أية مزايا شخصية، مثلها في ذلك مثل أي شكل من اشكال المادة الزائلة، التي لا جدوى من امتلاكها مادامت لا تحقق الهدف المرجو منها، وهو سعادة الناس في ظل عدالة اجتماعية شاملة. لذلك فقد اعتبر علي (عليه السلام) ثورة أبي سفيان المفتعلة[6] في سبيل حق الهاشميين وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) بعد ان بويع لابي بكر، ما هي الا فقاعات زبد القصد منها اشعال نار الفتنة وتبديد شمل المسلمين، من أجل أمر تافه لن ينقص من قيمة علي (عليه السلام)، ولن ينال من مكانة الهاشميين، لأن الخلافة كمنصب القصد منه التسلط وشهوة الملك ما هي الا «ماء اجن، ولقمة يغص بها آكلها»[7].
فالغاية من الحكم في فكر الإمام علي (عليه السلام)، بقاء قواعد الإسلام قوية حتى ولو كان ذلك على حساب اهتضام حقه المشروع. يقول لأصحاب الشورى لما عزموا على مبايعة عثمان «لقد علمتم اني احق بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة»[8] فلا يهم ان يكون مظلوماً ما دام الإسلام مصاناً، لأن نظرته الشمولية المتعمقة لمجريات الاحداث بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) حتمت عليه ان يبقى في الظل نائياً بمبادئه من ان تمس، أو ان يحور اصراره على المطالبة بالحكم بأنه شهوة حب التسلط في رقاب العباد ـ لأن اقتناعه التام بتكامل طرفي الإسلام، كعبادة واسلوب حياة، لا مجرد طقوس وشعائر، هو ما جعله ينبه لأحقيته في الحكم كوصي منصوص عليه معللاً ذلك التنبيه وتلك المطالبة ليست من أجل اشباع رغبة التسلط والامتلاك، ولكنها من أجل حماية الدين واعادة نصاعته إليه بإصلاح ما افسدته المادة واعادة الحقوق إلى نصابها بقمع الظلم والظالمين[9].
وما دامت شرائع الإسلام كما يراها علي (عليه السلام) ـ تؤدى على الوجه المرضي، فلن تكون غضاضة عليه، في السكوت عن حقه، متربصاً باي زيغ تحدثه السلطة، إذ لم يكن وقوفه في الظل الا وليد نظرة واقعية في مجريات الأمور في فترة كان الدين فيها مازال طرياً اخضر العود لما تشتد بعد[10]، على هذا يمكن قياس موقف الإمام علي (عليه السلام) الفكري تجاه الرجال والأحداث في عصره.[11].

 الهوامش:
[1] راجع خطب ـ 177، فقرة 2.
[2] خطب ـ 203، ويتبيغ: يهيج به.
[3] راجع في ذلك قوله لعثمان بن حنيف عامله على البصرة ـ رسالة رقم 45.
[4] رسائل 45 ـ فقرة 3 وجشوبة العيش: خشونته.
[5] ابن أبي الحديد 16/75.
[6] راجع ص 263 من هذا البحث، فقد فصلنا القول في ذلك.
[7] خطب 5،73.
[8] المصدر السابق نفسه.
[9] راجع خطب، 136، فقرة 2.
[10] ذلك بناء على قول علي (عليه السلام) في رسالته لأهل مصر «فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالى ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده (صلى الله عليه وآله) عن أهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فامسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله)، فخشيت ان لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً، أو هدماً تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه...» رسالة رقم62
[11] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 195 – 198.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2927 Seconds