بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
لم يحسم أمر البيعة بالحكم لأبي بكر حسماً تاماً في مؤتمر السقيفة كما تصوره لنا المصادر التاريخية، إذ يبدو من خلال فلتات المؤرخين في ثنايا سردهم للحوادث ان صراعاً خفياً قد احتدم وان المسلمين قد تحزبوا إلى فرقتين إذ يمكن ان يستنتج من القول بأن «اسلم اقبلت بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا، فكان عمر يقول: ما هو الا ان رأيت اسلم فأيقنت بالنصر»[1]، أي أن فوز أبي بكر لم يتحقق بسهولة ويسر، إذ لو كان الأمر كذلك لما قال «فأيقنت بالنصر» مما يعني ان الرؤية قد كانت غامضة قبل مبايعة اسلم، فاليقين هنا يتبع شكاً، والوجل والخوف من الفشل، كما ان كلمة (النصر) في السياق تنم عن الصراع الخفي الذي كاد ان ينفجر ليرجح كفة على اخرى. فما ان استقر أمر السقيفة لابي بكر جراء الجدل الذي أخذ القوم على غرة، وتنبه أولئك المجتمعون للسرعة المذهلة التي تمت فيها تلك البيعة، حتى «ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب عليه السلام، وهتفوا باسمه، وانه في داره فلم يخرج إليهم، فجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام»[2]، ثم ان المنافرات بين الأنصار والمهاجرين كادت ان تحدث فتقا في الإسلام، بإثارة النعرات القبلية، لو لا تدارك بعض الصحابة للأمر بسد افواه موتوري قريش على الأنصار وعلي عليه السلام، لما فعلوه بآبائهم وأجدادهم وأخوانهم في حروبهم معهم في الجاهلية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله[3]. ثم ان هناك كثير من رؤوس المهاجرين ممن امتنع عن بيعة أبي بكر من أمثال: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، ولم يدلوا بيعتهم[4] الا مكروهين «وكان إبان بن سعيد أحد من تخلف عن بيعة أبي بكر لينظر ما يصنع بنو هاشم فلما بايعوا بايع»[5]، وكان إبان في موقفه ذاك تبعاً لأخيه الأكبر خالد بن سعيد بن العاص الذي أسلم وأبو بكر في يوم واحد[6]، وقيل ان أبا بكر قد أمر خالداً ذاك على جيوش الشام، فاعترض عمر على ذلك قائلاً «أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو الله ما أرى ان توجهه»[7] فامتثل أبو بكر لذلك فعزله وولى مكانه يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح[8]. لذلك فمن المرجح ان البيعة لأبي بكر لم تتم ولم يستقر له الأمر الا بعد ان بايعه علي بن أبي طالب عليه السلام، وتبعه بنو هاشم إذ تحدثنا بعض المصادر التاريخية عن المحاولات التي بذلتها قريش لإضعاف جانب علي عليه السلام وارغامه علي البيعة «من ذلك توجه أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة إلى منزل العباس بن عبد المطلب ليلاً ليجعلوا له في الحكم «نصيباً يكون له ولعقبه من بعده»[9]، ليفتوا من عضد علي عليه السلام ولكنهم لم يفلحوا في اقناع العباس بذلك، وبقي علي عليه السلام ومن تبعه من آل بيته عليهم السلام وأشياعه «ستة أشهر لم يبايعوا حتى ماتت فاطمة عليها السلام فبايعوا»[10].
ويبدو مما أثر عن علي عليه السلام من نصوص في (نهج البلاغة)، وما دار حولها من شرح وتعليقات أن علياً عليه السلام قد حاول في الأيام الأولى من مبايعة أبي بكر أن يسترجع ما كان يعتقده حقه، وقد وقفت زوجته السيدة فاطمة عليها السلام بجانبه[11]ولكنه لم يفلح، من ذلك ما أثر عن معاوية في إحدى رسائله لعلي عليه السلام قوله «لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت افساد امره، وقعدت في بيتك، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته»[12]، فمعاوية يتهم علياً عليه السلام بالإفساد والتعدي والتحريض لإفشال بيعة أبي بكر ومهما انطوت تلك المقولة على مكر وخديعة بقصد الإساءة لعلي عليه السلام، فإنها تضيء جوانب من موقف علي عليه السلام وكثير من الصحابة إزاء بيعة أبي بكر مما يجعلنا نعتقد بأن تلك البيعة قد احدثت في بدايتها نوعاً من التشتت الفكري في مصداقية الإسلام في نفوس أولئك الذين لما تتمكن مبادئ الإسلام منها، إذ وجدت في اختلاف صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ذريعة للتمرد على الدين[13]. لذلك لم يجد علي عليه السلام بداً من اتخاذ موقف حاسم إزاء هذه المتناقضات التي كادت ان تحدث شرخًا في الإسلام، حتى لو كان ذلك على حساب حقه، لأن مصلحة الإسلام تقتضي منه التضحية[14] وكانت بيعته لأبي بكر الذروة في هذه التضحية، الا ان تلك البيعة لم تأت عن طواعية ولم تحدث الا بعد جدل طويل سجلت لنا بعض المصادر التاريخية جانباً منه[15]، مقتصرة على السرد، لذلك لم نتمكن من تمثيل الصورة الصادقة لمعاناته النفسية أثناء مجادلته عن ذلك الحق ولكن (نهج البلاغة) قد نقل الينا بعض مأثورات علي عليه السلام التي توضح بعض الجوانب من تلك المعاناة، من ذلك قوله في شأن من نقلوا حقه لغيره بتأويلات مفتعلة تنم عن نكوصهم عما اوصى به الرسول صلى الله عليه وآله «حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله رجع قوم على الاعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته ونقلوا البناء عن اساسه، فبنوه في غير موضعه»[16]، ويبدو من المقولة ـ كما نعتقد ـ ان علياً عليه السلام يختلف مع الشيخين اختلافاً بشأن قضية الاستخلاف وما امتناعه عن البيعة لأبي بكر مدة ستة اشهر[17]، الا تعبير واضح عن ذلك، ثم ان بعض المصادر الأدبية تذكر لعلي عليه السلام نصوصاً يقول فيها بمنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله واحقيته دون غيره بالخلافة، من ذلك ما رواه له الجاحظ من عتاب وجهه لمن امال الخلافة عنه من جمهور المسلمين[18]، كما ان ما دار من جدل بين علي عليه السلام وبين أبي بكر في اليوم الثاني بعد بيعة السقيفة، يدل على الخلاف العميق بين وجهتي نظر كليهما، ولكنه خلاف «يقف عند حد النقاش والحوار وقرع الحجة بالحجة»[19]، لاعتقاد علي عليه السلام بأن الاحتكام إلى السيف في مثل تلك الظروف العصيبة لن يكون في صالح الإسلام، فكان صراع بين العاطفة والعقل بالنسبة لعلي عليه السلام، حيث حسم ذلك الصراع لصالح العقل، فأقر علي عليه السلام بالتسليم على اهتضام حقه، وألم ممض فاضت به أعماقه[20].
فاعتقاده بأحقيته بالخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وآله هو المحور الأساس الذي اعتمده في مواجهة من جادله من الصحابة بشأن ذلك، يقول له أبو عبيدة بن الجراح حين حاولوا ارغامه على التسليم لأبي بكر بالبيعة «يا ابن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم، ولا أرى أبا بكر الا اقوى على هذا الأمر منك»[21] فكان رده على تلك المقولة «يا أبا عبيدة، اطال عليك العهد فنسيت، أم نافست فأنسيت؟ لقد سمعتها ووعيتها فهلا رعيتها»[22] فمن الملاحظ ان علياً عليه السلام لم يتطرق إلى مسألة الاحقية بالسن التي أثارها أبو عبيدة لإدراكه ـ كما نظن ـ بأن عامل السن من العوامل المستحدثة ضمن ذلك الجدل لافتقار الطرف المقابل إلى الحجة، لأن الرسول صلى الله عليه وآله حين أمر أسامة، وهو الحدث، على المهاجرين الأولين لم يضع السن مقياساً لذلك التأمير.
لذلك فإننا لو أخذنا مسألة الخلافة من منظور الإمام علي عليه السلام كما هو منصوص عليها في (نهج البلاغة)، فسنخلص إلى أنه قد كان يرى أنها حقه المنصوص عليه من قبل الرسول صلى الله عليه وآله سلب منه عنوة إذ ما فتيء يكرر ذلك في كل مناسبة، يقول في خطبته المسماة بالشقشقية «اما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير»[23].
إلا أن ما حمله في نفسه من ضيم لم يحل بينه وبين تقديم العون والمشورة كلما دعت الحاجة لذلك، «فقارب وسدد حسب استطاعته على ضعف وحد كانا فيه»[24]، لذلك لم يبخل برأيه، ولم يتردد في ابداء موقفه بصدق وأمانة وحماس كلما لجأ أبو بكر إليه، فحين عزم على ارسال الجيوش الإسلامية لغزو الروم شاور كثيراً من الصحابة «فقدموا واخروا، فاستشار علي بن أبي طالب عليه السلام، فأشار عليه ان يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت»[25]فأخذ بمشورته فكان الظفر للإسلام، لم يكن الإمام علي عليه السلام ينظر إلى شخص أبي بكر في حد ذاته الا من خلال نظرته الشمولية إلى مصلحة الإسلام، فالطاعة والاستجابة هنا ليست امتثالاً لشخص أبي بكر، لذلك يمكننا القول بأن حياة الإمام علي عليه السلام في عهد أبي بكر لم تكن سوى المناصحة والطاعة المقرونة بالإيمان، والانتظار المقرون بالأمل عسى ان يعود الحق إلى نصابه، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «تولى أبو بكر تلك الأمور، فيسر وسدد، وقارب واقتصد، وصحبته مناصحاً واطعته فيما اطاع الله فيه جاهداً، وما طمعت ان لو حدث به حادث وانا حي ان يرد الي الأمر الذي نازعته فيه، طمع مستيقن، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه، ولولا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت انه لا يدفعها عني، فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا واطعنا وناصحنا»[26]، فمسألة مركز الخلافة الإسلامية في فكر الإمام علي عليه السلام وان كان ذو اهمية عظيمة ـ الا انه مسالة ثانوية، مادام الإسلام مصاناً وحقوق العباد مؤداة في ظل الشرع من غير عسف ولا ارهاق وعلى ذات النهج يمكننا تتبع موقفه من شخص عمر بن الخطاب وتحديد فكره من سياسته[27].
الهوامش:
[1] تاريخ الطبري 3/222 وأسلم ـ اسم يطلق على عدة بطون وقبائل، والذين يعينهم عمر ـ كما اعتقد ـ هم اسلم بن افصى: بطن من خزاعة وهم: بنو اسلم بن افصى بن حارثة بن عمرو من القحطانية، من قراهم وبرة قرية ذات نخيل من اعراض المدينة ـ كحالة ـ معجم قبائل العرب 1/26.
[2] الزبير بن بكار ـ الأخبار الموفقيات 583.
[3] راجع ذلك بالتفصيل عند الزبير بن بكار، السابق من ص 595 حتى ص 602.
[4] راجع سليم بن قيس الهلالي الكوفي (ت في حدود 90 هـ) ـ كتاب سليم بن قيس ص 89 وما بعدها، وقد ذكر الكتاب وصاحبه ابن النديم ـ الفهرست ص 275 في اخبار فقهاء الشيعة وما صنفوه من الكتب، راجع ايضا: تاريخ اليعقوبي 2/124.
[5] ان الأثير أسد الغابة 1/47، وراجع ترجمة ابان في المصدر نفسه.
[6] السابق 2/97، 98، وترجمة خالد هناك أيضاً.
[7] تاريخ اليعقوبي 2/133.
[8] راجع السابق 2/133.
[9] راجع الحادث بأكمله عند ابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة 1/15، وتاريخ اليعقوبي 2/ 124 وما بعدها.
[10] ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/224.
[11] راجع ما قاله سليم بن قيس في كتابه بشأن حمل علي فاطمة الزهراء على حمار وأخذه بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهم السلام وذهابه إلى بيوت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يناشدهم الله في حقه ص 82 ـ83.
[12] شرح ابن أبي الحديد 15/186.
[13] نعني بذلك ارتداد بعض القبائل عن الإسلام وامتناع القبائل الاخرى عن دفع الزكاة، يمكن مراجعة ذلك في تاريخ الطبري 3/301 وما بعدها.
[14] بشأن امتناع علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر، والسبب الذي جعله فيما بعد يبايع، راجع قول علي عليه السلام في رسائل 62، فقرة 1.
[15] راجع على سبيل المثال الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/12، 13، ابن اعثم: الفتوح 1/12، 13.
[16] خطب ـ 148.
[17] أكثر المصادر ترجح ان بيعة علي لأبي بكر لم تحدث الا بعد ستة اشهر ـ راجع: تاريخ الطبري 3/208، العقد الفريد 4/260، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/220.
[18] راجع البيان والتبيين 2/50، 51.
[19] مغنية ـ في ظلال النهج 2/305.
[20] راجع خطب 3، فقرة 1.
[21] الإمامة والسياسة 1/12.
[22] ابن أبي الحديد 20/307.
[23] خطب 3، فقرة 1.
[24] شرح ابن أبي الحديد 20/218.
[25] تاريخ اليعقوبي 2/133.
[26] ابن أبي الحديد 20/218.
[27] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 204 – 211.